كنت في غزة، وكانت الناس كما لو أن الطير حط على رؤوسها، حين أعلن خبر وفاة القائد/الرمز، مؤسس الوطنية الفلسطينية، وقائد الكفاح الوطني الفلسطيني على مدار نحو نصف قرن مضى، ولأن الجثمان جاء طائرا من باريس إلى رام الله، أي لأن غزة كانت ممنوعة من المشاركة في التشييع، فقد حل الصمت والحزن والكآبة في كل مكان، منذ ذلك اليوم، إلى يومنا هذا.
لا أحد يمكنه أن يتصور مدى الألم الذي يحل بالإنسان حين يحرم من إلقاء نظرة الوداع الأخيرة على عزيز مات، فكيف إذا كان هذا الإنسان شعبا بأسره، ولهذا ربما، فإن غزة تبالغ في إظهار احتفائها بالذكرى السنوية لرحيل الخالد فيها: ياسر عرفات .
لقد تحول ياسر عرفات إضافة إلى ما كان عليه من مكانة خاصة جدا عند الفلسطينيين، إلى الشهيد الذي كان يشتهيه، حين كان يردد : يريدونني شريدا أو طريدا، لكني أقول لهم: شهيدا شهيدا شهيدا، وعلى مرمى النظر من القدس، اسلم الروح واقفا كما الأشجار، شامخا كما يليق بالشهيد الذي يلهم بشهادته الآخرين، تماما كما كان حال الشهداء العظام، أمثال حمزة بن عبد المطلب، زيد بن حارثة، عبد الله بن رواحة وجعفر بن أبي طالب ( جعفر الطيار )، لكنه في قلوب وعقول أهل غزة، أقرب إلى أن يكون على صورة سيد الشهداء الحسين بن علي، ذلك انه قدر له أن يقاتل وحده، وهو بين جدران المقاطعة، محجوزا أو أسيرا، لذا فان شعبه، يرى فيه الشهيد الذي مضى، ربما في غفلة منهم، أو في لحظة رفت جفونهم، وحيث أنهم، كانوا ممنوعين من إلقاء نظرة الوادع الأخيرة عليه، ما زالوا لا يصدقون انه صار في العالم الآخر، بل منهم من يظن انه ما زال في الخارج، وانه سيعود يوما ما كما فعل من قبل.
المحبوبون جدا من الشهداء، لا تصدق الناس أنهم ما عادوا أحياء، لذا فإنهم ينسجون حولهم الأساطير والحكايا، وأبو عمار في غزة سيد الحكايا، ولهذا فإنهم يخرجون كل عام في ذكرى استشهاده، كما لو كانوا يخرجون لاستقباله قرب معبر رفح، فعلوا هذا أول عام من أعوام الانقسام، عام 2007، حيث جاؤوا من كل فج عميق، بمئات الألوف واحتشدوا في ساحة الكتيبة، رغم كل الموانع والمعيقات التي كانت وضعتها سلطة الانقسام في ذلك الوقت، وضحوا بالغالي والنفيس من اجل أن يشاركوا في ذكرى الراحل العظيم، وكأنهم بالمشاركة في إحياء الذكرى يقومون بأداء الواجب الوطني، ويعبرون عن وفائهم الذي لا يفتر أو يقل مع مرور الأيام وتقدم الزمن، للراحل وسيرته ونهجه في الكفاح الوطني .
لن تختلف كثيرا الرغبة لدى أهل غزة هذا العام، بإظهار روح التحدي، بإحياء ذكرى الراحل التي تقول بأنه ما زال حيا فينا، لكنها ستكون احتفاء بإنهاء الانقسام، لكن ورغم تقديرنا بأن المنصة سيتسيدها الطابع الرسمي، إلا أن روح الوحدة التي دشنها أبو عمار طوال حياته وخلال مسيرته، ستكون واضحة وظاهرة، وستضفي على المناسبة الطابع الشعبي / الجماهيري الحاشد، فمع أبو عمار تكون فتح أم الجماهير فعلا، ووجودها سيعني بأن روحه قد انتصرت بعد عشر سنوات عجاف على ارادة العدو الإسرائيلي، الذي خطط ورعى الانقسام، وما كان له أن ينجح في ذلك إلا بعد أن قام باغتيال الرجل الذي كان يعرف كيف يقود شعبه من بين الدهاليز وكيف يخرج به سالما من كل المؤامرات .
ما لا بد من قوله هو أن غزة اليوم ستظهر حبها لياسر عرفات من السر إلى العلن، وبعد أن كان إعلان حبها له يأخذ طابع التحدي، وفيه مقاومة لسلطة مستبدة، صار واجبا أن يتحول الاحتفاء بالذكرى إلى منصة لإطلاق تراث الرجل، الذي شق الطريق للوطنية الفلسطينية، لقد آن الأوان لإقامة تمثال لياسر عرفات في ساحة فلسطين بوسط مدينة غزة، وإطلاق اسمه على أهم شوارعها، كما هو حال شارع عمر المختار، كذلك إطلاق اسمه على الكثير من المدارس والمستشفيات والمؤسسات العامة والخاصة، وقد آن الأوان لإقامة متحف خاص بتراثه في منزله بالمدينة يتحول إلى مزار للنشء، ليتعلم روح الوطنية الفلسطينية، ويضم كل مقتنياته الخاصة .
آن الأوان لإطلاق روح ياسر عرفات مجددا في كل بيت فلسطيني، لتجديد روح المقاومة، ولنشر الثقافة الوطنية، من الكوفية، إلى ترديد كل ما كان يقوله من كلمات، كذلك نشر خطبه وتداول تراثه في كل وسائل الأعلام الممكنة، والتي باتت سهلة الانتشار .
لابد أن يدرك الفلسطينيون بان ياسر عرفات بالنسبة لهم هو مثل أبراهام لنكولن بالنسبة للولايات المتحدة وكما هو المهاتما غاندي بالنسبة للهند
، وكما هو نيلسون مانديلا بالنسبة لجنوب أفريقيا، وهو بالنسبة للدنيا كلها، كما هو تشي جيفارا، وفيدل كاسترو، رمز من رموز الحرية في الوجدان العالمي.
انه الرمز الذي يوحد الفلسطينيين ويثير وجدانهم، ويبعث فيهم الروح الوطنية دائما، لذا لابد أن يصبح كما هو حال النشيد الوطني، يجب أن يتردد اسمه وتراثه كل الوقت وليس فقط في يوم من أيام السنة، وصحيح أن الوفاء مفردة أخلاقية، واجب علينا أن نتحلى بها دائما، لكن إحياء أبو عمار فينا، وليس إحياء ذكراه فقط، يتجاوز مفردة الوفاء، لإعادة الاعتبار للمشروع الوطني الفلسطيني نفسه، حتى يكون بمقدورنا، أن نحقق الهدف الوطني المنشود، بعد رحيل أبي عمار، تماما كما حدث ويحدث مع كل الرجال العظام، الذين يحملون رسالات وطنية أو إنسانية، تبقى بعد رحيلهم، وعادة ما تحقق أهدافها وانتصاراتها بعد أن غادروا حياة الناس إلى الحياة الأخرى.