تمر الذكرى الثالثة والعشرون للانتفاضة الفلسطينية الثانية، "انتفاضة الأقصى"، والتي اندلعت ببعد سياسي وآخر وطني ديني بعد اقتحام رئيس وزراء الاحتلال أرئيل شارون المسجد الأقصى في 28 أيلول/سبتمبر من عام 2000، ليخوض الشعب الفلسطيني تجربة مريرة استطاع بعدها بعقدين بناء استراتيجية جديدة للمقاومة، باتت اليوم تمثل خطراً استراتيجياً على "دولة" الاحتلال لا يمكن مواجهته.

التضحيات التي قدمها الشعب الفلسطيني منذ الانتفاضة الفلسطينية الثانية كبيرة، جداً لكنها حملت تغيراً استراتيجياً في قناعة الفلسطينيين تجاه وجود الاحتلال والتعايش معه. وبعد 23 عاماً باتت أغلبية الفلسطينيين تؤمن بأن طريق الانتفاضة هو الطريق الصحيح، والذي يمكن من خلاله مواجهة الاحتلال وانتزاع الحق الفلسطيني.

وجاءت الانتفاضة الفلسطينية الثانية بعد أن فشلت، أو أُفشلت فكرة تحرير فلسطين من الخارج، عبر قوات عربية أو فلسطينية، لتتحول القناعة بعدها إلى بناء استراتيجية جديدة تستطيع تثبيت الحق الفلسطيني وتواجه كل محاولات تثبيت الكيان المحتل في الأرض الفلسطينية.

كانت الانتفاضة الثانية بداية تحول استراتيجي في القضية الفلسطينية والمواجهة مع الاحتلال، الذي استخدم وسائل الترهيب والترغيب كافةً لردع الفلسطينيين وتهدئتهم. وكان التفكير حينها أنه، عبر المقاومة المكثفة من الداخل، يمكن أن ينتهي الاحتلال. وجرّب الفلسطينيون استخدام القوة العشوائية في الانتفاضة الثانية، لكنهم وصلوا إلى قناعة بعد هذه الأعوام مفادها أنه أمر غير كافٍ، وأن الحل يكمن في بناء استراتيجية جديدة تقوم على استنزاف الاحتلال وتفعيل جميع الجبهات، وصولاً إلى معركة متعددة الجبهات، تؤدي إلى تشتيت مكامن القوة لديه وانهيارها، وعدم الاعتماد فقط على القوة الفلسطينية في الداخل والخارج، بل دفع أكبر عدد من الأصدقاء إلى خوض المعركة ضد هذا الكيان.

التحول الاستراتيجي للفلسطينيين بعد انتفاضة الأقصى يتمثل بانتهاء خيار المفاوضات مع الاحتلال، فتجربة "اتفاق أوسلو" والحل النهائي للقضية الفلسطينية فشلت بعد أن رفضت حكومة الاحتلال الذهاب إلى مفاوضات الحل النهائي في عام 2000، وما زالت كل الحكومات الإسرائيلية غير معنية بأي حل مع الفلسطينيين.

وخلال هذه الأعوام نما خيار المقاومة كخيار وحيد للفلسطينيين في وجه الاحتلال. وعلى رغم ذلك فإن البعض ما زال يطرح أن هذه المقاومة يجب أن تُفضي إلى مفاوضات مع الاحتلال من أجل إرغامه على الوصول إلى حل نهائي ممثّلاً بـ"خيار الدولتين"، أو "خيار الدولة الواحدة"، أو "خيار الكونفدرالية". وهؤلاء ينطلقون من أن قوة الشعب الفلسطيني والمقاومة لن تستطيعا مجابهة التفوق الإسرائيلي، عسكرياً وأمنياً.

في المقابل، تنطلق فصائل المقاومة الرافضة لخيار المفاوضات من توجهات فكرية متعددة، تستند إلى جانب تاريخي، مفاده أنه لم يكن في التاريخ مقاومة أقوى من قوة الاحتلال عسكرياً، لكن من خلال استراتيجية الاستنزاف وجعل الثمن كبيراً على المحتل يمكن فرض وقائع جديدة، وصولاً إلى مرحلة التحرير، التي ستكون وفق استراتيجية ترابط الجبهات في الداخل والخارج، وجديتها وتكاملها.

وكانت الانتفاضة الثانية سبباً رئيساً في تطور فكر المقاومة الذي وصلت إليه خلال الأعوام الأخيرة، واعتمادها على التخطيط والتركيز على تحقيق الأهداف الاستراتيجية. فبعد مراجعات لعملها في الانتفاضة الثانية، وضعت يدها على مكامن الضعف والخلل، التي مكنت الاحتلال من إخماد المقاومة في الضفة الغربية في فترة من الفترات. ولهذا، باتت المقاومة اليوم، بعد تعلمها من أخطائها، قادرة على صنع معادلات ردع استراتيجية مع الاحتلال، وبناء خطط واستراتيجيات خاصة بها عن طريق تحرير فلسطين وكنس الاحتلال.

من يقرأ المشهد حالياً يدرك أن المقاومة الفلسطينية تخطو خطوات ثابتة في اتجاه استراتيجية تكامل الجبهات وترابطها. ففي الوقت الذي تراكم جبهة قطاع غزة القوة، تتواصل عمليات المقاومة في الضفة، الأمر الذي يستنزف على أقل تقدير 50% من قواته، بينما يتفاعل الفلسطينيون في مدينة القدس وفي الداخل المحتل عام 1948 بالمواجهة والدفاع عن المسجد الأقصى. وفي البعد الخارجي حققت تقدماً كبيراً مع محور المقاومة، الذي يوفر الدعم ويتجهز من أجل معركة كبرى متعددة الجبهات، تكسر "دولة" الاحتلال.

 

ملامح التحول الاستراتيجي خلال الفترة الحالية

- اعتراف الاحتلال بأن المقاومة الفلسطينية تحولت من خطر محدود إلى خطر استراتيجي، نتيجة تفاعلها في عدة جبهات، وقدرتها على المواجهة الكبيرة في أي وقت.

- انتهاء خيار المفاوضات من الأجندتين الفصائلية والشعبية، وتراجع مكانة الداعين إلى المفاوضات والسلام والتعايش مع الاحتلال، ونبذ الفلسطينيين كل من ينسق مع الاحتلال ويحارب المقاومة.

- ظهور قيادات فلسطينية مقاومة تؤمن بخيار المواجهة الكبرى مع الاحتلال، وتعمل على إحداث تغيير استراتيجي لدى الفلسطينيين في مختلف الجبهات، وظهور جيل فلسطيني جديد يؤمن بخيار المقاومة حلاً وحيداً للتخلص من الاحتلال، بالإضافة إلى فشل كل محاولات تدجين الفلسطينيين وربطهم بالقضايا الاقتصادية والمعيشية.

- تطور الفكر المقاوم واعتماده خططاً واستراتيجيات واضحة من أجل الوصول إلى مرحلة التحرير، تكمن في بناء قوى شعبية وعسكرية تواجه الاحتلال في كل الجبهات.

- تطور علاقات المقاومة الفلسطينية بمحور المقاومة بات كبيراً جداً على رغم محاولات التشويه ودق الأسافين. وباتت المقاومة الفلسطينية تعتمد بدرجة كبيرة على الدعم الذي يقدمه محور المقاومة من أجل تطوير قدراتها العسكرية وتجاوز حالة الحصار المشدد المفروض عليها.

-  "دولة" الاحتلال باتت تدرك أن لا عودة إلى حالة الهدوء مع الفلسطينيين، وأن كل الخيارات تمت تجربتها وفشلت.

- سيطرة المقاومة على قطاع غزة، باتت منطلقاً لتطور المقاومة والمواجهة مع الاحتلال، وتفعيل الجبهات الأخرى في المواجهة، ومنع الاحتلال من حسم الصراع.