ضمن التسريبات التي تطالعنا بها وسائل الاعلام يوميا عما بات يُعرف بصفقة القرن، أصبح بإمكاننا تكوين صورة عامة عن هذه الصفقة، والتي هي تعبير صحيح  ذو مدلولات عميقة؛ فما هو مطروح في الحقيقة لا يحمل أي مضمون لتسوية الصراع من أي جانب كان من جوانبه  المتعددة، فعلى سبيل المثال إعلان الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل لن ينهى البعد العقائدي للصراع؛ بل على العكس تماما هو مدخل جديد لتفعيل هذا البعد في الصراع، ومحاولة تصفية قضية اللاجئين عبر حل الأونروا لن ينهى قضية اللاجئين؛ بل سيزيد من حجم البعد الإنساني للقضية؛ خاصة وأن أولئك اللاجئين لا يحظون بأي دعم إلا من الوكالة الأممية؛ وذلك وسط تجاهل وتنكر الدول المضيفة لقضيتهم .

ومحاولة تسويق دولة فلسطينية بخريطة كتلك التي تظهر من التسريبات؛ بكنتونات مقطعة الأوصال بالمستوطنات وبدون سيادة وبلا حدود مع الجوار، فإنه ببساطة لن يحل القضية ببعدها الوطنى والقومي؛ ولكنه يعمل وبقوة على استفزاز الشعور الوطنى والقومي على حد سواء، ومقابل هذه التسريبات لا يمكن لأي عاقل إطلاق تعبير تسوية عن هذه الصفقة، علاوة على انعدام صفة إنهاء الصراع بالمطلق عنها.

وتدرك الإدارة الأمريكية ومراكز صنع القرار في الولايات المتحدة وفى إسرائيل حقيقة أن ما يجرى تجهيزه في المطبخ السياسي الأمريكي الإسرائيلي، وفى مناطق صنع القرار في الشرق الأوسط بهذا الصدد؛ لا علاقة له بحل الصراع أو حتى تسويته؛ بقدر ما له علاقة باستثمار لحظة ضعف تاريخية للطرف العربي والفلسطيني على حد سواء؛ لن يجود التاريخ بمثلها عبر صفقة تجارية بحتة يراد من خلالها أن يبيع الفلسطينيون والعرب على حد سواء صك الشرعية الدولية الاستراتيجي الذي يمتلكونه مقابل مكاسب أنية.

 

أما بالنسبة للفلسطينيين فالصفقة تتعامل معهم بمنظور أقل آدمية بحيث تقايض سبل الحياة الأدمية لهم بصك شرعية قضيتهم؛ وذلك باستخدام مبدأ التجويع بهداف التركيع والقبول بأي حلول، وهذه هي الحقيقة التي تجملها الدبلوماسية السياسية الأمريكية عبر تعبير صفقة القرن، والتي هي صفقة العار القومى والعقائدي والإنساني والحضارى للعالم بأسره عبر التاريخ الإنساني.

والجدير بالذكر أن صفقة القرن لن تنهى الصراع، ولكن تمريرها سيمنح إسرائيل شرعية يستحيل عليها الحصول عليها؛ لتواصل بقوة إدارة صراعها الطويل مع الفلسطينيين مستقبلا، ولكن في المقابل فإن الرفض الفلسطيني لتلك الصفقة كفيل بإنهائها، والادارة الأمريكية وإسرائيل تراهنان على حجم قدرة الطرف الفلسطيني على الصمود؛ ومن الواضح أن حجم الضغط الأمريكي والإسرائيلي على الفلسطينيين مدروس وموزع  ضمن استراتيجية محكمة؛ مضمونها إفقاد الفلسطيني أيا كان موقعه في الهرم الكيانى الفلسطيني أي خيارات للمواجهة نحو الاستسلام للواقع المفروض على الأرض.

لكن التساؤل الذى يدور في مخيلة الجميع ..  ماذا يمكن أن يحدث لو أن الفلسطينيين أجبروا على الاستسلام؟ ما هو واقعنا وواقع إسرائيل في اليوم التالي لتوقيع صفقة القرن؟ والتي هي وحسب التسريبات لا تضع نهاية عملية للحدود بين إسرائيل والكيان الفلسطيني الناتج عنها، والذى من البديهي سيكون كيان قمعي بوليسى قادر على تنفيذ بنود صفقة العار؛ علاوة على أن وظيفته الاستراتيجية الأكبر ستكون غسل أدمغة الأجيال القادمة من أي رواية تناقض الرواية الصهيونية؛ وذلك عبر تعميم ثقافة السلام عبر ضخ مليارات الدولارات لتحسين الوضع الاقتصادي للكيان الفلسطيني الناتج؛ والسؤال هنا هل بمقدور أي كان تغيير ثقافة شعب  وتخدير إحساسه بالظلم التاريخي الذى وقع عليه عبر القوة الجبرية؛ أو حتى عبر المال.

وعلى صعيد آخر لن توفر صفقة القرن إن تمت لإسرائيل أي نوع من الأمان الاستراتيجي، ولن تستطيع تطبيع وضعها في الإقليم بصفقة مذلة لجيرانها الفلسطينيين والعرب؛ حتى تلك الشرعية التي ستحصل عليها من صفقة من هذا النوع لن تعدو كونها شرعية الجاني؛ والذى يمتلك السكين بيده المرتجفة على عنق المجنى عليه ولن يستطع قتله ودثر تاريخه وحقه، فلازال عدد الفلسطينيين اليوم في فلسطين التاريخية في ازدياد ويشكل أرق ديمغراقى لصناع القرار في إسرائيل، ولن تكون القدس مدينة يهودية حتى لو وسعت حدودها من النهر إلى البحر، وسيبقى مقدسيوها العرب الفلسطينيون يأموا أقصاها وكنائسها إلى قيام الساعة؛ مؤكدين عروبتها وفلسطينيتها، ولن يكون أمام إسرائيل للحفاظ على صهيونيتها وفق هذه الصفقة؛ إلا التحول إلى دولة عنصرية يمينية وفاشية بشكل رسمي، وهو ما لن يتحمله قسم كبير من سكانها اليهود  الغير صهاينة؛ والذين لا زال بهم نبض لروح الإنسانية، وستدفع إسرائيل ثمنا أكبر بكثير مما تعتقد نظير شرعية السكين التي ستمنحها لها صفقة القرن؛ لأنها ستضيق الخيار أمامها بين دولة مدنية ديمقراطية ودولة صهيونية يهودية فاشية، وسيكون على إسرائيل أن تعيش حتى آخر يوم من عمرها على حد سكينها، ولن يستطيع أحد فى هذا العالم أن يضمن لها الأمن والأمان دون منح الفلسطيني حقوقه .

أستاذ علوم سياسية وعلاقات دولية