ظلت وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (أونروا) منذ تأسيسها قبل عقود تمثل "برميل البارود الصامت" المهيأ للانفجار في أية لحظة نتيجة ارتباطها بعوامل سياسية وقانونية وإنسانية، مهّدت لها الظروف السياسية لتلعب دور "ورقة ضغط سياسي"، سيما وأنها تمس بشكل مباشر حياة لاجئين ينتمون لقضية تعتبر الأعقد في التاريخ المعاصر.

فالوكالة التي تشكلت بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة يحمل الرقم 302 عام 1949، واقترانه بقرار آخر شهير يحمل الرقم 194 عام 1948، ويخص حق العودة للاجئين الفلسطينيين، يصبغ قرار تشكيل الوكالة بالصبغة السياسية، من ناحية المساهمة الإيجابية في العمل على إعادة اللاجئين من ديارهم التي هجروا منها قسراً نتيجة الاحتلال.

ومن بين ما أوصت به الجمعية العامة للأمم المتحدة تفويض (أونروا) تقديم الدعم للاجئين إلى حين التوصل لحل دائم لقضيتهم، حيث تفرع هذا الدعم إلى تنفيذ برامج المساعدات في قطاعات التعليم، والصحة، وتشغيل العاطلين عن العمل، إضافة لبرامج الإغاثة والخدمات الاجتماعية.

وفي الشأن السياسي والقانوني أيضاً يجري بشكل دوري بحث الجمعية العامة قضية اللاجئين الفلسطينيين كبند يُدرج على جدول أعمالها، وإقرارها بشكل مستمر على "حق عودة اللاجئين غير القابل للتصرف إلى ديارهم، وتعويضهم عن ممتلكاتهم التي خسروها جراء الاحتلال والتشريد"، إلا أن الغياب الفعلي للإرادة الدولية في إلزام دولة الاحتلال تنفيذ القرارات يحول دون حل هذه القضية.

وللمتتبع لظروف نشأة الوكالة، واعتمادها على التبرع الطوعي من الدول، واقتصار القسط الأكبر من هذا التبرع على الولايات المتحدة ودول أوروبية، تليها في الدرجة الثانية دول خليجية كالمملكة العربية السعودية، يكاد يلقي المزيد من الأضواء لفهم ما يحدث في المرحلة الحالية من تقليص وتراجع في الخدمات التي تقدمها الأونروا لملايين اللاجئين الموزعين في الضفة الغربية وقطاع غزة، والأردن وسوريا ولبنان.

فالأمم المتحدة التي تصدر القرارات وتبحث في آليات تنفيذها، تعجز عن هذا التنفيذ حين يتعلق الأمر بالقرارات الصادرة لصالح الشعب الفلسطيني وحقوقه، وعلى رأسها حق العودة، ليس بسبب القوة الخارقة لإسرائيل، ولكن لاعتبارات يعرفها القاصي والداني تتلخص في التحالف التاريخي للدول المتحكمة في المنظمة الأممية كالولايات المتحدة بدولة الاحتلال، حيث باتت هذه الدول هي الضامن الحقيقي لبقاء إسرائيل وضمان أمنها.

إذن فلماذا تتبنى الأمم المتحدة قرار تأسيس الأونروا على الرغم من بديهة إبقاء قضية اللاجئين تراوح مكانها في أروقة المنظمة الدولية طيلة عقود من الزمن؟!.

باعتقادي أن السبب الرئيسي يتركز حول خشية العديد من دول الغرب من تحمل عبء "الفضيحة" التي ستصيبهم جراء موت اللاجئين جوعاً ومرضاً في دول الشتات، بعد تقديم الدعم لدولة الاحتلال ومساندتها لاحقاً في تأسيس وترسيخ دعائم الدولة المصطنعة، على حساب الشعب الفلسطيني.

وربما يضاف إلى ذلك سعي الدول المتحكمة في الأمم المتحدة لإرجاء التناول الجدي لمسألة اللاجئين الفلسطينيين باعتبار أنها تسير بشكل متوازٍ مع ملفات سياسية أخرى في إطار إيجاد تسوية للقضية الفلسطينية، يتم على أساسها –ومع مرور الزمن- تغليب خيار توطين ودمج اللاجئين في الدول التي لجؤوا إليها، وتعويضهم عن أرضهم التي شُردوا منها.

وقد أسهم حال العجز العربي في تفرد الدول العظمى بالتحكم في الأونروا ورسم نهجها العام، باعتبار أنها الدول المانحة، ولولاها لما كانت هنالك أية موازنة مالية تنفذ برامج الدعم الإنساني للاجئين، حيث الدعم العربي والإسلامي للأونروا محدود -(يقدر بـ 2%)- إذا ما قورن بالدعم الأمريكي والأوروبي.

وفي حين أن الأونروا تأسست بعد الإعلان عن قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي، واعتراف العواصم صاحبة القرار الدولي بها تباعاً، أي أن قرار تأسيسها جاء تكريسا للواقع الجديد، حيث تضمن بنودا تشير إلى "اتخاذ الإجراءات الفعالة في أقرب وقت بغية إنهاء المساعدة الدولية للإغاثة"، ليظهر ذلك فيما بعد من سياساتها التي اتبعتها من خلال تخصيص موازنات أكبر لغايات دمج اللاجئين في مجتمعات دول الشتات، منها لغايات الإغاثة.

إلّا أن تقليص خدماتها الذي بدأ منذ سنوات، وأصبح يسير اليوم بوتيرة أسرع من ذي قبل، سيما بعد تخفيض الولايات المتحدة الأمريكية – الداعم الأكبر للوكالة- قيمة تبرعاتها من 125 مليون دولار عام 2017، إلى 60 مليون دولار خلال العام الحالي، بات يلقي بظلاله "الكارثية" على الأوضاع الإنسانية للاجئين في الأراضي الفلسطينية وفي مخيمات الشتات.

وقد بدأت بالفعل ملامح الكارثة الإنسانية تظهر بشكل واضح عقب إعلان الأونروا عن احتمالية عدم قدرتها على فتح أبواب مدارسها أمام الطلبة العام الدراسي المقبل بسبب عدم توفر الدعم الكافي لذلك، سبقها قرار "برنامج الأغذية العالمي" تعليق المساعدات الغذائية المقدمة لنحو 92 ألف فقير في قطاع غزة بسبب نقص التمويل.

وكان من نتائج المأزق المالي الذي تعانيه الأونروا إنهاء خدمات العشرات من الموظفين في مؤسسات الوكالة في الأردن، مطلع العام الجاري، وقد طال القرار إنهاء خدمات عمال نظافة، وعمال التنظيف في المدارس والعيادات، ووقف العمل بنظام المياومة والعقود، وقد شمل قرار إنهاء خدمات العمال كافة المخيمات الفلسطينية في الأردن.

ومؤخراً أنهت الوكالة خدمات 1000 موظف لديها في قطاع غزة، وبحسب بيانات صادرة عنها فإنها تنوي الاستغناء عن المزيد من الموظفين في الفترة المقبلة إن استمر المأزق المالي على حاله، إضافة لأنشطة توقفت كالمخيمات الصيفية للأطفال، وأخرى ستتوقف في المستقبل القريب.

ومع تبني الولايات المتحدة، عقب اعتلاء دونالد ترامب سدة الرئاسة، موقفاً متطرفاً تجاه الوكالة، يشير إلى طبيعة التحولات التي تشهدها المرحلة، والتي تحمل ملامح ذهنية الإدارة الأمريكية الجديدة في التعاطي مع قضية اللاجئين خاصة، وتسوية الصراع العربي - الإسرائيلي في الشرق الأوسط عامة، فإن الموقف الأمريكي الجديد يصل إلى حدود التماهي مع الموقف الإسرائيلي الساعي لتصفية الأونروا بهدف محو أي أثر لحقوق اللاجئين الفلسطينيين.

الموقف الأمريكي جرى التعبير عنه بشكل صريح في الآونة الأخيرة، حاملاً معه تبريرات ترضي شغف الإدارة الجديدة في تنفيذ مخططات شاملة تهدف لتصفية القضية الفلسطينية لصالح دولة الاحتلال، عن طريق إزاحة ملف اللاجئين عن طاولة التفاوض، وهضم حقوقهم، لدرجة وصل معها الحال إلى إطلاق واشنطن "تقييمها" المضلل ومفاده بأن "الأونروا أضرت باللاجئين الفلسطينيين وبأن تفويضها جاء بنتائج عكسية عليهم"، فكيف يكون ذلك؟.

من السذاجة استعصاء فهم طبيعة وضع اللاجئين الفلسطينيين الموزعين بين مناطق (الضفة الغربية وقطاع غزة، والأردن وسوريا ولبنان)، والبالغ عددهم في الوقت الحاضر 5 ملايين و900 ألف شخص، بحسب إحصاءات الأونروا، كما أنه من البداهة -بناءً على ذلك- تصور حجم الاحتياجات المتزايد لهذا العدد من اللاجئين، ومدى الحاجة إلى توفير الخدمات الصحية والتعليمية والخدمية لهم في أماكن تواجدهم، في وقت ندرك فيه حجم المصاعب الاقتصادية التي تعانيها الدول التي يقطن فيها هؤلاء اللاجئين.

كيف يمكن تخيّل أوضاع مئات آلاف الأسر وقد حرمت من شبكة أمان اجتماعي تساعدهم بالكاد على البقاء على قيد الحياة؟ وأي مصير ينتظر عشرات الآلاف من الموظفين والعمال من أبناء اللاجئين العاملين في الوكالة حين يجدون أنفسهم على قارعة الطريق دون عمل، ودون مصدر رزق؟.

وهل من الممكن تقدير تداعيات ذلك على المستوى السياسي والأمني، في المجتمعات التي يعيش فيها اللاجئون، خاصة بعد تفاقم أوضاع الفقر والبطالة بينهم؟ وما يمكن أن تصل إليه التداعيات من تأثير على الأمن الإقليمي، بينما تعيش العديد من بلدان الشرق الأوسط أوضاعاً أمنية وسياسية استثنائية خلقت بيئة غير سليمة، وخصبة لنمو النبت الشيطاني للتطرف والإرهاب.

 وأمام استشعار الأونروا بما يمكن أن تكون عليه الصورة المستقبلية القاتمة، في حال استمرت أزمتها المالية، أطلقت عدداً من الحملات والنداءات لسد العجز الحاصل في موازنتها كي تكون قادرة على الاستمرار في عملها والوفاء بالتزاماتها الإنسانية والأخلاقية والقانونية تجاه ملايين اللاجئين، بات على الدول العربية والإسلامية اتخاذ التدابير اللازمة لمنع وقوع الكارثة من خلال تخصيص ميزانيات يمكن لها أن تساهم في سد العجز.

كما أن هنالك دور أساسي يمكن للمنظمات الإنسانية والخيرية المنتشرة في العالمين العربي والإسلامي أن تلعبه عن طريق إسهاماتها في تعويض البرامج والأنشطة التي توقفت الأونروا عن تنفيذها، والمشاركة في إعادة تدعيم شبكة الأمان الاجتماعي التي تخدم ملايين اللاجئين، ومساعدة أكثر من نصف مليون تلميذ فلسطيني يتلقون تعليمهم في 711 مدرسة تابعة للأونروا، والمحافظة على 143 مركزا صحيا كبيرا يتلقى فيها اللاجئون العلاج، فضلاً عن إدامة البرامج الإغاثية، وبرامج الإقراض، وبرامج الخدمات الطارئة.

 ولا بد أن يكون هنالك توجه حقيقي لطرح بدائل منطقية وبعيدة المدى لواقع أزمة الأونروا، المالية والسياسية، كإطلاق مشروع "منظمة عربية وإسلامية" يكون من مهامها رعاية شؤون اللاجئين الفلسطينيين من الناحية السياسية والإدارية، بما في ذلك توفير المخصصات المالية اللازمة من أجل تقديم الدعم لكافة القطاعات المتعلقة بحياة اللاجئين من تعليم وصحة، ودعم إنساني، تحول دون تحكم الدول المانحة بالدعم المالي المقدم للاجئين وتوظيفه لأغراض سياسية.

دون إغفال مهمة توفير الدعم السياسي اللازم لحماية الثوابت الفلسطينية، على رأسها حق العودة للاجئين، والوقوف في وجه مخططات تصفية القضية الفلسطينية، سيما المتعلق منها بحقوق اللاجئين.

ومن أولويات ذلك أن تقوم "المنظمة العربية والإسلامية" على عقيدة وإيمان راسخ وثابت بحقوق الشعب الفلسطيني كحق عودة اللاجئين، والتعويض، إضافة لدعم وتأييد حق الفلسطينيين في بناء دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.