علم السياسة هو علم دراسة القوة السياسية  التي تتمثل في القدرة على تحقيق هدف معين بكل الوسائل الممكنة,  وهو علم النسبية وعدم الثبات ما يعتبر غير ممكن اليوم يعتبر ممكناً غداً, لذلك وصفت السياسة بأنها  فن الممكن – المساومة والحلول الوسط.

في ساحة العلاقات الدولية هناك طريقة لحل النزاعات وهي وجود طرف ثالث ليس طرفاً في النزع يعمل على التوسط بين الطرفين المتنازعين من أجل الوصول إلى حل وسط, ويقوم الطرف الثالث بحمل رسائل من وإلى المتنازعين, وتوضيح الأمور وتقديم الاقتراحات كما فعل رالف بانش مبعوث الأمم المتحدة للمصالحة بين العرب والإسرائيليين عام 1949, وكما يفعل مبعوثها ميلادينوف الآن لإيجاد حلول للتهدئة بين "حماس" تحديداً والإسرائيليين.

خلال الأسبوعين الماضيين أصبحت الساحة الفلسطينية مسرحاً صاخباً للكثير من التوترات والأحداث السياسية,  فمن جهة يدور الحديث عن المصالحة برعاية مصرية التي ما تلبث أن يُعلن عن نجاحها حتى يبادر طرف من الأطراف الفلسطينية بعرقلتها بتوسيع هوة المطالب الحزبية الخاصة به, ومن جهة أخرى اتفاق التهدئة بين حماس وإسرائيل برعاية دولية وإقليمية.

يبدو أن الأمور أصبحت أكثر تعقيداً وتخوفاً مما كانت عليه مسبقاً لحماس وغيرها من الأطراف الفلسطينية, الحديث عن حلول لإصلاح الأوضاع الاقتصادية والمعيشية بالقطاع بدعم من الجانب الإسرائيلي وبرعاية دولية يجعل وجباً على حماس النظر لهذا الموضوع من كل الاتجاهات وأن تفكر فيما لو قبلت الحلول المطروحة ما هي النتائج المتوقعة.

لا يمكن أن نعزل الأحداث الجارية عن بعضها, النظر إلى الحلول المثقلة بالأمل وعزلها,  في ظل الصفقات الدولية يجعل الوقوع في الفخ أقرب, نحن ندرك أن حماس حائرة في أمرها وهذا ما جعل راس الهرم في الحركة  " صالح العاروري" يحضر للقطاع, وما يزيدها استغراباً حصوله على الأمان الإسرائيلي, هذا العدو الماكر الذي لا يفوت أدنى فرصة للقض على فريسته,  كل ذلك يجعلنا ندرك أولاً أن المصلحة الإسرائيلية من حلول التهدئة ثمينة وكبيرة جداً.

حماس اليوم في حاجة للتخفيف من معاناة القطاع,  وغير راغبة  في الدخول لحرب تثقل كاهل الشعب الذي يعاني من حالة استنزافية مقيتة على الحدود أو بالضربات الجوية  التي تقدم عليها إسرائيل داخل القطاع بين الفينة والأخرى, لذلك وجدت في هذه التهدئة فرصة على الأقل للاجتماع والمفاوضة وبث الأمل لسكان القطاع, ولا سيما أنها وجدت في المسيرة التي يفاوض العدو على إنهاءها حل لأزماتها.

يمكن القول بأن مصالح حماس اليوم أصبحت أقرب لمصالح الآخر, وهي راغبة في إحداث تهدئة يُفك فيها الحصار عن القطاع ويثبت كأول إنجاز يسجل لها منذ توليها الحكم في غزة 2007 م, ولكن الرغبة الإسرائيلية في وضع ملف الأسرى كأول حلول التهدئة هو ما يجعل الدائرة تضيق عليها, لأنها تريد المفاوضة على ملف الأسرى بشكل منفصل لتحقيق ربح أكبر, وهذا ما تتخوفه دولة الاحتلال لذلك فهي تُصر على أن يكون ملف الأسرى أولى الملفات التي تناقشها فهي تريد مناقشة كل قضايا غزة جملةً واحدة حتى تُجبر حماس وتتمكن منها, فتوفير الحياة الكريمة للمواطن الفلسطيني مقابل التسليم بالمطالب الإسرائيلية.

لاشك أن تخوف حماس وإسرائيل وحتى الأطراف الإقليمية كمصر من الدخول لحرب في ظل الارتباك في الجبهة الشمالية هو الدافع الأول للقبول بحلول التهدئة التي تكلفت الولايات المتحدة الأمريكية بإتمامها, والتي اعتادت على إجبار العرب للمثول لقراراتها وما تقدمه من اقتراحات, فمن خلال النظر نجد بأن الرغبة الأمريكية الملحة في إتمام التهدئة لا تأتي من فراغ, فمبعوث الأمم المتحدة الذي يتخبط ذهاباً وإياباً ما بين الطرفين, يجعل التوصل لاستنتاج إنجاح صفقة القرن هي الفكرة الأولى التي تلج للعقول, فالإلحاح الأمريكي في إنجاح الصفقة بكل السبل تخطى حدود الأوراق والتعديلات فأصبحت بحاجة لإثبات جزءًا منها على أرض الواقع وما تقدمه من حلول إنسانية للقطاع يُثبت أنها لن تستكين إلا وتكون قد حققت جزءاً مما أرادته من الصفقة.

الحديث عن المصالحة في ظل وجود اتفاق تهدئة يجعل الوضع أشبه بورقة من الخربشات, فالمصالحة ما زالت على شفا, فالموافقة الحمساوية على الورقة المصرية ووضع موافقة مبدئية من قبل السلطة الفلسطينية لا يعني أن الأمر قد انتهى فما زالت هناك بعض البنود التي لم يتم التوافق عليها وهي ذروة الخلاف بين الطرفين أولها موضوع تمكين الحكومة وموظفي حماس هذا جانب, أما جانب التهدئة الذي يهمش دور السلطة الفلسطينية ويتعامل مع قطاع غزة كأنه إقليم منفصل عن إدارة أبو مازن يجعل الأمر يزداد تعقيداً, فرغبة أبو مازن الأولى وإن صح الحديث هو التخلص من حماس وتسليمه زمام الأمور في قطاع غزة وهو يقوم بإعادة غربلتها كما يريد.

استكمالاً لذلك اتفاق المصالحة الفلسطينية يعني عودة السلطة للقطاع ويعنى ايجاد حلول للأزمات الإنسانية ويعني إعطاء حماس مكانة لتبقى في السلطة من خلال حكومة وفاق وبالتالي الانجرار لتهدئة تهمش دور السلطة وتتعامل معها كأنها عنصر غير موجود يُصعب الأمور حتى وإن لم تتضح الأمور بالنسبة لحماس حتى هذه اللحظة, لذلك ستبقى هوة الانقسام بين الفلسطينيين كما هي, وحلول التهدئة لن تجد لها مكان.