ما تشهده هذه الفترة من اتخاذ قرارات مصيرية على صعيد كيان الاحتلال الغاصب يكشف مدى العنجهية المتسرعة ربما والعقل الاستراتيجي الواعي أيضاً الذي يُستخدم في رسم خطط المستقبل, ومنها قانون القومية الذي صدر بعد رفض وتلكأت وتعديلات عدة.

وينص القانون على أن إسرائيل هي "الدولة القومية للشعب اليهودي"، وأن حق تقرير المصير فيها "يخص الشعب اليهودي فقط"، الأمر الذي يستثني فلسطينيي 48 ويهمش دورهم السياسي والاجتماعي في البلاد, إضافة إلى أنه يُلزم المحكمة العليا في إسرائيل بتفضيل "الهوية اليهودية للدولة" على القيم الديمقراطية في حال وقع تناقض بين الهوية والديمقراطية، في بلد لطالما تغنى بالديمقراطية واتهم غيره بالعنصرية, بل واعتماد اللغة العبرية هي اللغة الرسمية, إضافة إلى صلاحية توسيع الاستيطان ليشمل مساحات أوسع من مناطق الضفة الغربية.

لاشك أن تمتع دولة الاحتلال بسند ورابط ظهر قوي كالولايات المتحدة الأمريكية يدفعها إلى التعجرف واتخاذ قرارات وهي على ثقة بأن المجتمع الدولي لن يكون له أي تعليق دامت الولايات المتحدة تتمكن من إخراسه, ليس ذلك فقط ويمكن اعتبار هشاشة الحالة الفلسطينية عاملاً مساعداً على جعل المحتل يمتلك رزنامة مختلفة من القوانين والقرارات التي تمكنه من النهوض بمجتمعه تمهيداً لتنفيذ مخططاته الاستعمارية.

لا يمكن إنكار بأن الاحتلال الكولونيالي مدرك بأن اتخاذ هكذا قرار سيجعله في مهب الضربات ولكنه كعادته وليس ثناءً له يمتلك ذكاء عالٍ في تقدير الأمور, فهو مدرك أن هكذا قرار يعني ضرب لكل محاولات التسوية المحتملة مع الفلسطينيين, وبالتالي فهو قام بالموازنة بين الرفض الفلسطيني الحازم لـ"صفقة القرن" واتخذ إجراءاته المتعلقة بها, بحيثُ يعتبر هذا القانون خطوة من خطوات الصفقة التي لطالما وضعت مواعيد للإعلان عنها وكانت دائمة التأجيل.

إعطاء الشرعية لهكذا قانون عنصري, يجعلنا نعود إلى بدايات قيام الكيان الغاصب على فلسطين الذي اعتمد على الأسلوب الاحلالي بطرد الفلسطيني وإحلال اليهودي, وبالتالي فإن هذا القانون يجعل حقوق الفلسطينيين المهجرين في بقاع العالم في طي النسيان, بل يصبح لزماً  وبصورة شرعية عليها طرد الفلسطينيين الموجودون في الأراضي المحتلة من أجل التوسع بشكل أكبر تمهيداً لإقامة الدولة اليهودية المأمولة.

الحديث عن تجرؤ القيادة الإسرائيلية في اتخاذ قرارت مجحفة بحق الفلسطينيين يجعلنا نوجه أنظارنا إلى تعاطف وتعاون الإدارة الأمريكية مع اليمين المتطرف بحيثُ تظهر وكأنها أداة طيّعة  لنتنياهو ولحزب اليمين المتطرف بشكلٍ عام, لذلك فإن رفض الفلسطينيين لما يسمى بصفقة القرن قبل عرضها على العلن بشكلٍ واضح , نابع من إحساس فلسطيني صادق من أن هذه الصفقة وكل الحلول المطروحة والتي ستطرح ما هي إلا خدمة للكيان الغاصب وتسيراً لقراراته.

كانت تتوقع إدارة ترامب بأن الرفض الفلسطيني للصفقة لن يستمر طويلاً, فكانت دائماً ملحة على الطرف الفلسطيني من أجل العودة للتسوية والقبول بحلول الصفقة, ولكنها الأن تواجه خجلاً عاماً من استمرار حالة الرفض الفلسطيني, وفي اعتقادي أن إسرائيل مدركة بأن الجانب الفلسطيني حازم في أمره على خلاف كل مرة, فأرادت أن تنقذ أحد بنود الصفقة فأعلنت هذا القانون المجحف.

على الجانب الأخر من الممكن أن يكون هذا التسرع في هكذا إعلان هو خوف من القيادة الإسرائيلية من أن تستمر المماطلة في طرح الصفقة إلى أن تأتي إدارة أمريكية لا يمكنها التحكم فيها كما الآن, وبالتالي تريد أن تحقق مكاسب من وجود الإدارة الحالية.

يمكن إيجاد ربط أخر لهذا القانون بالصفقة فمن خلال إقرار القانون تصبح القدرة التوسعية للكيان الغاصب متاحة بطريقة شرعية, بمعنى أنها تمكنت من الضفة الغربية أولاً بإعلان القدس عاصمة لإسرائيل والحصول على المباركة الأمريكية لها بنقل السفارة, وبالتالي فأوجدت العاصمة التي تقتضيها الدولة بصيغتها الرسمية, وثانياً تحاول تهجير الفلسطينيين من أراضيهم كما فعلت مع سكان الخان الأحمر, فهذا يعني وحدات استيطانية جديدة تُكمل حلم الدولة, أما قطاع غزة فهو متروك للحل الأمريكي المسمى "بالصفقة" وذلك مرهون بالموافقة الفلسطينية التي لن تحصل أبداً.

وبالتالي فإن حل مشكلة قطاع غزة مرهون بالصفقة, بحيث يدور محورها أن يتم تحسين أوضاع القطاع إقتصادياً بشرط تخلي المقاومة الفلسطينية عن السلاح والسلطة, وبالتالي يمكن عودة فتح إلى القطاع لتقوم بحكمه ويبني الفلسطينيين عليها حلم الدولة الفلسطينية, أو يتم إلقاء إدارتها على مصر, سواء كانت هذه الحلول أم هناك حلول أخرى لم تُعرض فإن الصفقة في طريقها إلى الموت, وليس هناك أي نبوءات تدل على نجاحها.

لا يوجد طرف فلسطيني إسلامي وعلماني وليبرالي راضٍ بالصفقة فالجميع على أهبة الرفض كما يبدو, لذلك لا يمكن القول بأن طرف يساعد في إنجاحها, ولكن استمرار الانقسام يعتبر دافعاً لتكالب الأعداء علينا واتخاذ قرارت مجحفة بحق كل فلسطيني, لذلك يجب عليهم الالتزام بإنجاح المصالحة, والتي قد تكون المحاولة الأخيرة لتدخل الطرف المصري في حال فشلت, ويجب علينا التمسك بالثوابت الوطنية الفلسطينية, وعدم التخلي عنها ببعض امتيازات قد تمنح لنا بخبث.