كيف تمكن نتنياهو الذي كان يهبط عند الدرجة الأخيرة من السلم ولم يكن يلزمه سوى ركلة قدم أخيرة للسقوط، كيف تمكن من العودة بحركة واحدة ليصعد على أعلى درجة ممسكاً كل الخيوط بيده؟ فقد أوقف العالم على قدم لمدة أحد عشر يوماً لأن مستقبله الشخصي ومستقبل زوجته تطلب ذلك.

في اليوم الرابع من عدوانه على غزة كانت مجلة السياسة الخارجية الأميركية «فورين بوليسي» تكتب عنواناً لتقرير للخبير بالمنطقة «نير زيلبر» «كيف أعطى القتال بين الفلسطينيين والإسرائيليين نتنياهو شريان الحياة السياسية»؟.

كان ذلك واضحاً لمن يراقب المنطقة فقد استسلم نفتالي بينيت أول أيام الحرب وسلم نفسه لنتنياهو وتشظى خصومه الذين كان بينيت أبرزهم وكان على وشك أن يصبح رئيس وزراء ويودع خصمه اللدود السجن، لكن هذا السجين الجنائي مع وقف التنفيذ تمكن بحركة واحدة من قلب الطاولة على الجميع والعودة بشكل أقوى كمن يقاتل من أجل الدولة، لكن الحقيقة التي كانت أمام الجميع أنه يقاتل من أجل نفسه مضحياً بالإسرائيليين وقاتلاً للفلسطينيين.

تمكن نتنياهو ولأن خصومه من هواة السياسة وهو الرجل المتمرس والذي يملك دهاء ليس من المبالغة القول إنه فاق كل رؤساء وزراء إسرائيل، وهو الذي تمكن من الاستيلاء على زعامة اليمين التاريخي حتى في ظل وجود آباء هذا اليمين من زمن جابوتنسكي حين كان في بداية الأربعينيات من عمره ليصبح رئيس وزراء منتصف الأربعينيات العام 96.

ومن يومها لم يتوقف عن مشاغلة الحالة السياسية في إسرائيل، يفعل كل شيء حتى لا يسقط وبضمنها ثلاث حروب في أقل من عشر سنوات كان يعود بإنجازات تقطر دماً فلسطينياً يقدمه للناخب الإسرائيلي ويفوز.

كانت أولى حروبه على غزة في تشرين الثاني 2012 بعد أن تقرر حل الكنيست والذهاب للانتخابات في الثاني والعشرين من شباط 2013 وافتعلها عندما اغتال قائد الجناح المسلح لحركة حماس الشهيد أحمد الجعبري، وكان عدوان 2014 الذي امتد لأكثر من خمسين يوماً يسبق انتخابات 2015 بستة أشهر عندما تبين أن حكومته وصلت لنهاياتها حين قرر شريكه آنذاك يائير لابيد حل الشراكة وذهب بها للانتخابات ليعود من جديد، أما هذه الحرب فكانت حرب المصير النهائي إذ ظل يقاتل بأسنانه على مستقبله السياسي حتى النهاية ولم يستسلم حتى في اللحظة الأخيرة ليفاجئ الجميع بأن الساحر ما زال يخرج من أكمامه أرانب حتى وإن كانت مذبوحة لكنه مناور أرغم خصومه في الأحزاب السياسية على الانحناء ورفع الراية.

وإن كان في كل مرة وبما يملكه من قدرات دعائية يقدم نفسه بعد المعارك للناخب الإسرائيلي كمنتصر، لكن هذه المرة كانت إلى حد ما مختلفة في أداء الفلسطينيين وفصائل المقاومة في قطاع غزة ليس فقط جسدها التوازن «النسبي» في جعل أكثر من نصف مدن إسرائيل مكشوفة أمام ضرباتها بل في الاتهامات عن الفشل والتي بدأت بعد موافقة الكابينيت على التهدئة وقبل أن تتوقف المعارك بساعات، وإذا كانت الحرب في بداياتها أعطت نتنياهو شريان حياته السياسية كما قالت «فورين بوليسي» لكن المعركة نفسها أو بنهاياتها سحبت الأنابيب الصناعية ومن المؤكد أنها حرمته من صورة المنتصر الذي سيذهب بها لانتخابات خامسة كسيناريو أصبح قوياً، وإن كان كل ما يحتاجه حين بدا أنه ساقط لا محالة لم يكن بحاجة إلى أكثر من استسلام بينيت ولابيد وساعر وسيفكر الآن بالخطوة اللاحقة وإن ضيقت عليه المقاومة هذه المرة خيارات المناورة بلا شك.

كانت معركة الأحد عشر يوماً معركة شرسة لكن الذي تمكن من تقديم نفسه قائداً وحارساً للإسرائيليين لم يتمكن هذه المرة من وقف الصواريخ التي ظلت تنهمر بنفس وتيرتها، ولم يستطع النيل من أي من الرؤوس التي يمكن أن يقدمها للناخب فخرج منها عاري اليدين والجسد أيضاً، فقد خرج الملك بلا ثوب حين شقته له إرادة فلسطينية أصابته بلوثة وهو يتنقل مترنحاً بين غزة والقدس ونابلس وحيفا والناصرة واللد التي اختصرت حكاية النكبة.

لأول مرة منذ الانتفاضة الأولى تتجسد الإرادة موحدة كَأوركسترا كانت تعزف بلحن واحد، كانت تنسق عزفها بين القدس وغزة واللد وباقي المدن دون أن تضطرب أو تتلعثم لتسجل أمام التاريخ هذا القدر من اللحن الثوري المجلجل في زواياه المعتمة يتردد صداها في كل الكون، تلتف فلسطين وشعبها ومقاومتها بعباءة السكون دفعة واحدة وتنطلق نحو الفضاء ليقف العالم مندهشاً: كيف تمكن هذا الكف الناعم الصغير من ملاطشة مخرز تحمله أكثر الطائرات إجراماً على أسنتها؟ تلك حكاية الميلاد.

وعلى هامش اللحظة كيف تمكن الفلسطينيون وصواريخهم من قطع الطريق أمام غباء التاريخ؟ وتلك رواية أخرى لأن الحدث الأبرز للعام الماضي كان تطبيع الدول العربية مع اسرائيل.

وكان دافعه الأكبر أن بعض العرب يستنجدون بإسرائيل من إيران للاعتقاد بأنها الدولة فائقة القوة التي يمكن أن يشكل معها التحالف ضمانة لهم، لكن هذه الحرب قالت للعرب إن بعض فصائل المقاومة بسلاح منزلي تمكنت من ضرب هذه الدولة فكيف سيكون أداء حزب الله أو إيران مثلاً؟ من المؤكد أن صورتها اهتزت ولم تعد تصلح للحماية. ربما هذا يفقد شهية العرب للتطبيع معها ومن المؤكد إذا كان العرب يقرؤون أن هذه المعركة قطعت الطريق على هذا المسار وتلك من مصادفات التاريخ الساحرة والساخرة أيضاً...!