غداً، تبدأ اجتماعات المجلس الوطني بعد غياب طال هذه المرة لأكثر من عقدين لأسباب عديدة، أبرزها تراجع الدور الوظيفي للمنظمة نفسها بعد بروز مؤسسات خدماتية وتمثيلية جديدة، وهي هيئات السلطة الوطنية التي تشكلت على الأرض، وخطيت برعاية إقليمية ودولية، وتلك طبيعة الأشياء عندما تتزاحم المؤسسات.
تشكلت منظمة التحرير، قبل حوالى خمسة عقود ونصف العقد في العام 1964، بقرار من القمة العربية التي انعقدت في القاهرة في ذلك العام، حيث كان التمثيل الفلسطيني فيها رمزياً، ممثلاً بشخص المحامي المرحوم أحمد الشقيري، والذي كلفه مؤتمر القمة بتقديم تصور للقمة القادمة عن إنشاء كيان يتحدث باسم الشعب الفلسطيني، وقد أسفرت حينها جهود الشقيري الذي زار العديد من التجمعات الفلسطينية المنتشرة في الدول العربية عن انتخاب المجلس الوطني الأول في القدس، والذي ينعقد امتداده، غداً، في رام الله.
النظام الأساسي الذي وضع حينها حدد للمجلس مدة ثلاث سنوات ليُنتخب بعدها مجلس جديد، وقرر أن ينعقد هذا المجلس دورياً كل عام، ولكن هذه المرة ابتعدنا لزمن جيل عن آخر مرة اجتمع فيها عام 1996، وكان من عاديات الأشياء أنه لا أحد في الشعب الفلسطيني تساءل عن سر الغياب أو جدوى الانعقاد، ولا أحد شعر بالحاجة لعقده، وذلك لأن مياهاً كثيرة جرت في نهر السياسة الفلسطينية في ربع القرن الأخير كانت تدفع بالمنظمة إلى الوراء.
منذ اجتماعها الأول في القدس أصر بعض المشاركين على تصويب وضع المنظمة، منذ أن أصر المرحوم أحمد الشقيري على البقاء على المنصة بعد انتخابات المجلس الوطني وانتخابه رئيساً له وللجنة التنفيذية، وأبرز المطالبين بالتصويب كان الدكتور حيدر عبد الشافي الذي نادى بفصل السلطات، ومنذ ذلك التاريخ والمطالبات بإصلاح المنظمة لم تتوقف، إلى الدرجة التي أصبح فيها شعار إصلاح المنظمة واحداً من أبرز الشعارات التي رافقت مسيرة الفلسطينيين الكفاحية كجزء من الإرث الفلسطيني.
وسط جدل آخر ينعقد المجلس الذي طال انتظاره، فالجبهة الشعبية الفصيل الثاني في منظمة التحرير وإن تراجع حضورها كما تراجعت كل فصائل المنظمة، أعلنت بعد حوار في القاهرة اعتذارها عن المشاركة، فيما تأخرت الجبهة الديمقراطية عن إعلان موقفها حتى اليوم، حيث ستعقد مؤتمراً صحافياً، لكنها تبدو أكثر ميلاً للمشاركة، بينما هناك فصائل أخرى مثل حركتي «حماس» و»الجهاد» خارج إطار المنظمة حتى الآن، رغم اتفاقيات لها مع المنظمة بالانضمام منذ 2011، وهكذا تظهر الحالة الفلسطينية تبدو أنها أقرب للتفتت منها للوحدة وتلك واحدة من أزمات العمل السياسي الفلسطيني.
يشتد الجدل حول عقد تلك الدورة على المستويين الرسمي والشعبي، فالفصائل في حالة تناحر وتنافس وصراع على الشرعية، سواء بدعمها أو نزعها عن المؤسسة، والرأي العام منقسم أيضاً ارتباطاً بحالة الجدل الدائرة منذ أن فشل الفلسطينيون في السيطرة على خلافاتهم في مؤسسة فشلت بإدارة هذا الاختلاف، لينتقل على الأرض بالسلاح وفي الإعلام ليعيد صياغة ثقافة جيل فلسطيني بالإقصاء ورفض الآخر، ومن يومها ونحن نغرق في خلافات تتجلى في كل شيء.
النقاش الشعبي يأخذ طابعاً يؤدي الى تسطيح الخلاف الفلسطيني بعيداً عن التفكير العميق الذي غاب في السنوات الأخيرة عن السياسة الفلسطينية، إذ ينشر البعض شعار «منظمة التحرير تمثلني»، ويجري جدل كبير وتعزيز لتلك الفكرة والدفاع عنها وكأن هناك خلافاً جدياً حول قصة التمثيل، فتلك محسومة مبكراً منذ تشكيل المنظمة؛ لأن المنظمة هنا تشبه الدولة ومؤسساتها والدولة عادة هي الممثل الطبيعي لجميع مواطنيها بغض النظر عمن يحكمها، إلا إذا كان المقصود هنا اتجاهاً تنظيمياً محدداً يحكم المنظمة هو الذي يمثل جهة محددة، وهنا الوقوع بسطحية جديدة يراد منها خلق حالة من الفوضى في النقاش بهدف حرف الجدل عن مساره استكمالاً للسؤال الذي طرح في اجتماع الشقيري بالمجلس الأول ولا يزال: كيف يتم إصلاح منظمة التحرير لتضم جميع فئات الشعب الفلسطيني؟ وكيف يمكن لمؤسسة المنظمة أن تنجح في ضبط الخلافات الفلسطينية داخلها وليس خارجها كما يحدث في المؤسسات الحضارية؟ خصوصاً أن مهمة المنظمة المشتقة عن اسمها «التحرير» لم تنجز بعد.
المجلس الذي ينعقد، غداً، ليس هو المجلس الذي كان في ثمانينيات القرن الماضي المفعم بالأمل، والذي كنا في الانتفاضة الأولى نتداول أشرطة الفيديو لإحدى دوراته بسرية وحماسة شديدين، لأن مجرد الاجتماع حينها كان واحداً من مواد الطاقة المتفجرة للانتفاضة، كنا نراقب بشغف وأمل كبيرين كيف كانت القيادة الفلسطينية التي حملت المشروع الوطني وندقق في كل كلمة وحركة ومعانقة كانت تحمل لنا الكثير من الأمل في ظل مناخات موحدة ومختلفة.
ليس هناك اختلاف على تمثيل المنظمة بين الفلسطينيين وهذا مدعوم عربياً، فالمنظمة هي جزء من النظام الرسمي العربي وما زالت، ولا تقبل أي من الدول العربية مزاحمتها على التمثيل، ولكن الخلاف بينهم على تركيبته المنظمة التي تتهم الفصائل قيادتها بالتفرد هذا منذ عهد الشقيري وعرفات، والآن الرئيس أبو مازن وكذلك سيطرة حركة «فتح» على المنظمة دون شراكة حقيقية مع أي كتلة أو حزب أو تنظيم آخر، شراكة حقيقية وليست شكلية.
ماذا لو تأخر عقد المجلس الوطني لبضعة أشهر لتدخل الفصائل خلالها في حوار جدي وليس كالحوارات الشكلية السابقة؟ حوار حول المشروع الوطني الذي لا يختلف عليه فلسطينيان، حوار يضمن بناء المنظمة بعيداً عن التشنجات والمشاحنات والأجواء الخلافية مقابل رغبة أميركية إسرائيلية تتجسد بالقضاء على الحلم الفلسطيني وتصفيته. رغم إدراكنا لصعوبة هذا الحوار باعتبار أن منظمة التحرير هي الجهة التي وقعت الاتفاقيات مع إسرائيل واعترفت بها وهذا يصطدم مع برنامج «حماس» وتلك معضلة انفجرت عندما دخلت «حماس» للسلطة.
لكن الجبهة الشعبية، والتي هي جزء من المنظمة أيضاً، لا تعترف بالاتفاقيات، ومع ذلك فالمنظمة ليست جسماً واحداً بقدر ما أنها الضمانة لتجميع كل المختلفين منذ تأسيسها، وكان حرياً بقيادة المنظمة أن تضمن تمثيلاً أكبر وتعبيراً أكبر عن قوى المجتمع لا أن تقتصر على قوى محددة دون غيرها، خاصة أن المجلس ينعقد في ظروف انقسام ليس بحاجة إلى زيادة مساحته بقدر أن الجهود يجب أن تنصب باتجاه إنهائه بكل السبل لأن المرحلة خطيرة ولا تحتمل مزيداً من الانشقاقات..!