ثلاثمائة وخمسٌ وستون يومًا بالتمام والكمال، كانت امتداد الزمن لتجربة اختارني فيها القدر لخوض معركة البقاء مع العدو الأشرس على الإطلاق إنه (السرطان).

كانت البدايةُ عندما ساقتني الحكمة الإلهية طوعاً لإعداد ثلاثة تقارير عن حال مرضى السرطان في قطاع غزة، إحداها كان يتحدث عن نظرة المجتمع للسيدات المصابات بهذا المرض الذي يخشى الناس حتى من ذِكر اسمه. أذكرُ يومها أن خمسَ سيداتٍ اجتمعن في مكتبي بتاريخ الثالث من أبريل/ نيسان 2017، يحملن جميعهن ألم المرض ووجع الانتباذ، ذاك الجدار الذي بناه المجتمع لهن، وحال دون أن يواصلن الحياة كما يجب فقط لأنهن مصابات بالسرطان، كنت أشعر بالألم مع كل دمعة ذرفنها، أو حاولن إخفائها، وهن يذكرن كيف لفظهن المجتمع والشريك والأهل وربما الأصدقاء، وكيف استطعن وحيدات أن يقاومن المرض بكل تبعاته، وأول ما لمع في ذهني حينها السؤال الأهم: ماذا عنكِ؟ ماذا لو أصابك المرض؟ كيف ستواجهينه؟ هل أنتِ حقًا قادرةً على سماع نبأٍ كهذا؟

هالتني إجابة إحداهن عندما سألتها عن شعورها في أول مرة عرفت أنها مريضة سرطان؟ كيف واجهت نفسها ومن حولها حينما علمت بهذا النبأ؟ حينها قالت: " كأن شيئاً لم يكن، هي إرادة الله، وماذا بوسعي أن أفعل؟ وقفت أمام المرآة التي كانت صديقتي الوحيدة، وضعت يدي على شعري أتحسسه للمرة الأخيرة قبل أن أحلقه تماماً، نعم فعلتها قبل أن يفعلها بي الكيماوي".

 يا إلهي ما كل هذه القوة؟ من أين حصلت عليها تلك السيدة التي لم تتجاوز الخامسةَ والثلاثين من عمرها؟ كيف تجرأت على فعل هذا بنفسها؟ كنت أتسأل، ولعدة أيام هجرني النوم وقلبي مثقلٌ بما لا أعرفه حقاً، هي ليست المرة الأولى التي أتناول فيها قضايا مرضي السرطان في غزة، إذن ماذا هناك؟ لم كل هذا الهم ؟

الساعة الثامنة مساء يوم الحادي عشر من أبريل/ نيسان عام 2017، جاءت الاجابة، هاجر أنتِ مصابة بسرطان الثدي، وقع ما لم يكن بالحسبان، كيف لم يخيل إليّ للحظة أن هناك حكمة إلهية تدعوني لشد الرحال لأنضم لذاك الركب، خمس ساعات هي مرحلة الإنكار التي عشتها ومر فيها أمام ناظري شريط كامل من التوقعات والمخاوف والأحداث، ولكن إلى متى؟ منذ متى تستسلم هاجر؟ كل من كان حولي كان يبكى وأنا فقط من ينظر إليهم بدهشة لا تفسير لها حتى اللحظة؟ ولكن ربما هي الصدمة، وربما هو التفكير في المواجهة لاختبار القدرة، وربما هو استحضار لأولئك السيدات الخمس، بوجعهن كله، أصبحنا الآن ست سيدات، نعم من الآن سأقف أنا أيضاً لأواجه المرآة، وسأبني معها علاقه لا أعلم أمدها، سأتحسس شعري للمرة الأخيرة، سأفقد حاجبيي، ورموشي، ونضارة بشرتي التي لطالما كانت همى الأول، و ياليت الأمر يقف عند هذا الحد، فرغم كل التقارير التي أعددتها عن مرضى السرطان ، إلا أنّني كما الباقيين من حولي لم أجرؤ يوماً على سؤال أحدهم عن حجم الألم الذي تسببه تلك المادة الحمراء التي تسري في جسده، لأن السؤال في حد ذاته مفزع بالنسبة لي، ولكن في اللحظة التي بات لزاماً عليّ أن أتلقى العلاج الكيماوي في وريدي، كان السؤال يطرق أركان دماغي، يحاصرني، يرعبني، وربما يحرقني لا شعورياً قبل أن آخذه، وربما كان هذا أصعب ما في الأمر.

 رفعت سماعة هاتفي وهاتفتها ليصلني صوتها من هناك من رام الله، حيث كانت يومها قد غادرت قطاع غزة للمشاركة في الاجتماع الأسبوعي للحكومة الفلسطينية، مرحبا دكتورة هيفاء، أنا هاجر هناك خبر مؤسف، أنا مصابة بالسرطان، الخبر مفجع وصادم، ولا أعرف ما مدى قدرتي على تحمله.

 هي لم تكن بالنسبة لي وزيرة للوزارة التي أعمل بها فحسب، فمنذ أن عرفتها مطلع عام 2014، ربطني بها علاقه صداقة تؤهلها لتكون أول العارفين بنبأ كهذا، لتبادرني بالقول، إياكِ أن تكسري، أو تهزمي، ما عهدتك كذلك هاجر، أخرجي للملأ وأعلني عن مرضك، لا تخافيه وكوني عليه أقوى.

 وفي تلك اللحظة شعرت أن صوتها البعيد القادم من رام الله استطاع أن يأخذني من يدي كطفلة صغيرة تعلمها الأيام الخطو نحو بناء علاقة جيدة مع مجتمع كبير، هل حقاً أنا كذلك وأنا التي يصفها الناس بالاجتماعية لكثرة علاقاتي، هل كنت بحاجة لهذا السند كي أكسر جدار خوفي من المرض في مجتمع لا يؤمن بحق النساء المريضات بالسرطان فيه في العيش ولو بحقوقهن الدنيا وكل ما بوسعه، أن يظهر ملامح الشفقة عليهن.

الشفقة؟! هاجر جاء اليوم الذي ستصبحين فيه مثاراً للشفقة ممن عرفك أو قد يعرف عنكِ بعد الآن؟ مؤلم هذا الشعور بكل المعاني الممكنة، ما الذي يحدث، وكيف ومتى؟ ما كل هذه التساؤلات التي تُطرح الآن أمامي، ما الذي يجب عليّ فعله الآن؟.

لا شيء صدقيني يا هاجر لا شيء، انهضي من فراشك الوثير، واذهبي لشاشة حاسوبك، وخطّي على جداره "الفيس بوكي" هذه الحالة: " من الآن سأبد بكتابة أول حروف التجربة الناجحة في مواجهة مرض السرطان ، هذا الضيف الثقيل الذي زارني دون استئذان مسبق من فضلكم ادعموني ولا تشفقوا عليّ فلست بحاجةٍ إلى الشفقة" أحسنتِ هاجر أحسنتِ، صعدتِ الآن أول سلم لتخطي المرض، اعترفتِ و أعلنتِ وبات ما يقرب من 20 ألف شخص متابع لك على صفحتك على "الفيس بوك" لديهم نبأ إصابتك بالمرض، لقد كسرتِ حواجز الذات، والمجتمع، وقولتِ بملء فيكِ أنك قادرةٌ على المواجهة، هيا اهدئي يا نفسي وتغاضي الألم، نامي في سكينة، فربّ السماء لن يتركك وحيدة.

 الساعة الآن الخامسة فجراً، انهالت عليّ الاتصالات من القريب والبعيد، زملاء، أصدقاء، وزراء مسئولين، قادة رأي ، نخب ومثقفين وكتاب.. إلخ، تذكرتُ حينها السيدات الخمس وهن يتجرعن مرارة الفقر والحرمان وفوق ذلك المرض، لا أحد يعلم بوجعهن، وتساءلتُ في نفسي ماذا لو لم أكن صحافية ولديّ كل هذا الكم من المتابعين والأصدقاء؟ لمِ علينا أن نكون مشهورين كي نحظى بكل هذا الاهتمام؟ وماذا عن آلاف المرضى المصابين بهذا المرض، ليس هذا هو المهم الآن، المعركة بدأت، هاجر هيا انطلقي، تسلحي بكل أدوات المواجهة، ابحثي عبر محركات البحث عن أسباب المرض، أعراضه، ومحاربته، والإجراءات الوقائية ، لا وقت لديكِ، هي معركة منتصرٌ فيها صاحب النفس الأطول، ليس في صالحك، فمنذ لحظة اكتشافه، بدأ عداد العمر يركض وربما يهرول

بدأتُ بوضع نظامٍ غذائي لنفسي، استشرت كل أطباء الأورام في قطاع غزة، سألت عن الخطة العلاجية وقررت البدء بأولى الجولات، وهي الخروج من قطاع غزة الذي يشهد ارتفاعاً كبيراً وملحوظ في أعداد المصابين بهذا المرض، ويخسر بشكل يومي شخصاً واحداً على الأقل ممن حال نقص الدواء دون مواصلتهم للعلاج

وبدأت عبر برنامج العون والأمل لرعاية مرضى السرطان والذي يقدم فرصه نادرة للسيدات الممنوعات بفعل الإجراءات الإسرائيلية من السفر لتلقى العلاج في العاصمة الأردنية عمان، لأصطدم بقرار المنع الإسرائيلي الذي جاء فيه أنني ممنوعة من السفر كما الكثيريين ممن يعانون يومياً، وكنت بعيدةً عن معاناتهم، أو على الأقل لست قريبةً بما يكفي

مجدداً لا سبيل لديّ سوى تلك الشاشة الزرقاء، التي باتت لسان حال المتوسلين لفرصة أخرى في هذه الحياة، كتبت منشور آخر طالبت فيه بالتغريد على" هاشتاج" #هاجر_لازم_تتعالج، وكان مضمونه يفضي إلى المطالبة من نقابة الصحفيين ومكتب الرئيس محمود عباس، بالضغط على إسرائيل للسماح لي بمغادرة غزة للعلاج، وبالفعل حصلت بعد 15دقيقة فقط من كتابة المنشور على موافقة من مكتب الرئيس، وبدأت الإجراءات والتجهيزات لسفري، ومجدداً طرق دماغي السؤال ذاته، ماذا عن أولئك المغمورين؟، ممن لا يعرفون أن شيئاً في الحياة يسمى نقابة تدعم حقوقهم، وكل ما يهمهم هو لقمة العيش وجرعة الكيماوي إن توفرت.

ولكن على أيّ حال بات عليّ أن أتجهز وأنا أصعد ثاني سلم في مواجهة المرض لهزيمته، كان لزامًا أن أنتظر يوم الثلاثاء من الأسبوع التالي لمنشوري الأخير، فهو اليوم الوحيد الذي تسمح به إسرائيل لسكان غزة بمغادرة القطاع لقضاء حوائجهم كافة، عبر ما يسمى باص الترحيلات، أو باص الشتل

كانت المرة الأولى التي سأغادر فيها غزة، منذ أن عدت إليها عام 1994، والمرة الأولى التي سأرى فيها جمال بلدات الجدات والأجداد. صعدتُ الحافلة التي كانت تنتظرنا عند الساعة السابعة صباحاً، بتاريخ 23 مايو / آيار2017، وأنا أودع بعيني كل شيءٍ حولي والأمل يدفعني بأن أعود منتصرةً بعد انتهاء رحلة العلاج، سارت الحافلة، وتركت معها كل الإمكانيات بعودة قريبة. لكنها لم تكن بهذا القرب الذي أتوقعه، مر عام ثقيل عشت فيه مرارة الوحدة والغربة عن الأهل والأصدقاء، وفوق هذا كله أصابتني سهام جرعات "الكيمو" ، كما كان يحبب إلي تسميته، على أمل بناء علاقه وطيدة معه لنتجاوز معاً تبعات المرض.

جربت وجع "الكيمو" بكل أعراضه الجانبية، رافقتني دعوات أمي وأبي وأنا محاصرة بكل مشاهد الوداع الأخير لكل من اختارهم الموت ولم تمنحهم الحياة فرصة ثانية للعيش، وجلهم من السوريين، والعراقيين، والأردنيين، والليبيين، ممن كان لهم حصة الأسد فيما أطلق عليه تندراً الربيع العربي، وما تبعه من حروب طاحنة ألقى فيها أطنان من المتفجرات، هناك حيث جمعنا الوجع، بعد أن فرقتنا النزاعات وأكلنا الاقتتال

وفي تلك التجربة تعلمت ما لم يخطر يوماً على بالي أن أتعلم وأنا أتلقى كل قطرة "كيمو" ، وما تلاها من استئصال وعلاج إشعاعي مكثف، وصل إلى 25جلسة بواقع جلسة يومياً، حرقت جلدي لكنها أسعفتني في النفس الأخير، وأخذت بيدي نحو بر الأمان، والنجاة من المرض

عام انتظرت كثيراً أن أعود لأروي للآخرين كيف تغلبت عليه، وكيف استطعت بناء استراتيجية فعالة لمواجهته، عرفت فيه ما الذي عليّ فعله، لتجنب الإصابة فيه مرة ثانية، وأنا التي انتقلت من مرحلة الاكتشاف المبكر إلى مرحلة الخطر بسبب تأخري في تناول العلاج وأنا التي كلما همّت بكتابة قصتها مع المرض حال دون ذلك أصوات صافرات الإسعاف التي تقل أقراني من المرضى إلى غرف الطوارئ وكنت أرمقهم بطرف عيني، من خلف قضبان نافذة غرفتي المطلة على واجهة مركز الحسين للسرطان، ومع كل مرة أرجو نفسي بأن العودة قريبة وأن حروف التجربة الناجحة للمواجهة ستُخط، وأن المسألة لن تتجاوز الوقت، فمعه كل شيء سيكون على ما يرام، وسيعود كل شيء لطبيعته، ستنتصر هاجر التي عادت إلى غزة فجر التاسع من أبريل نيسان عام 2018، وهي منتصرة على أخبث مرض عرفته البشرية، وفي جعبتها تجربة 33عام، هي سنوات عمرها التي ما شعرت أنها عاشتها إلا بعد أن خاضت تجربة النجاة، وبات بمقدورها أن تمد يد العون لكل مريضات السرطان في قطاع غزة، وأن تشكل معهن مجتمعات حلقات دعمٍ وإسنادٍ، وأن تكسر الصورة النمطية عن المرأة المصابة بهذا المرض في المجتمع الغزي.

نعم انتصرت هاجر لنفسها، ولكل من سلب المرض أحبائهم، ولكل من يعتقد الآن أنه أضعف من أن يواجه المرض، انهض وانفض عن نفسك هذا الاعتقاد، فلم يعد السرطان بعد اليوم سوى الأكذوبة التي لا تقبل التصديق.