من بين أطفال عائلة كنفاني كان الكاتب غسان كنفاني الوحيد الذي ولد في عكا، التي احتضنت معظم فترات الإجازة والأعياد لأسرته، إذ ولد في التاسع من نيسان أبريل عام 1936، حيث رُوي عن ولادته أن أمه حين جاءها المخاض لم تستطع أن تصل إلى سريرها، وكاد الوليد يختنق بسبب ذلك.

 كان من نصيب غسان الالتحاق بمدرسة الفرير، ولم تستمر دراسته الابتدائية هذه سوى بضع سنوات، فقد كانت أسرته تعيش في حي المنشية بيافا وهو الحي الملاصق لتل أبيب، وقد شهد أولى حوادث الاحتكاك بين العرب واليهود التي بدأت هناك إثر قرار تقسيم فلسطين؛ لذلك فقد حمل الوالد زوجته وأبناءه وأتى بهم إلى عكا وعاد هو إلى يافا.

وأقامت العائلة هناك من تشرين عام 47 إلى أن كانت إحدى ليالي أواخر نيسان 1948 حين جرى الهجوم الأول على مدينة عكا، بقي المهاجرون خارج المدينة على تل الفخار (تل نابليون) وفي الصباح كانت معظم الأسر تغادر المدينة، وكانت أسرة غسان ممن تيسر لهم المغادرة مع عديد من الأسر في سيارة شحن إلى لبنان.

وبدء غسان كنفاني حياته السياسية عام 1953م حين قابل الدكتور جورج حبش الذي يعد مؤسساً لحركة القوميين العرب، وكانت المقابلة في دمشق، وخلال تلك الفترة على وجه التحديد بدأ غسان يمارس حياته السياسية بشكل واعٍ كعضو فعال في حركة القوميين العرب، وقد غادر سوريا إلى الكويت، لكن سرعان ما طلبت إليه القيادة الانتقال إلى لبنان عام 1960 ليعمل في صحيفة الحركة.

وفي عام 1967 بدأ عمله في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين فعاش لحظات نشوئها، وبعد مغادرته الكويت متوجهاً نحو بيروت انضم إلى أسرة تحرير مجلة "الحرية" الناطقة باسم حركة القوميين العرب، وازداد اسم غسان لمعاناً فتولى عام 1963 رئاسة تحرير جريدة "المحرر" اليومية، وكان يشرف على الملحق الأسبوعي الذي تصدره جريدة المحرر باسم "فلسطين".

وانتقل عام 1967 لرئاسة تحرير جريدة الأنوار اليومية (1967 1969) وكان له في صفحتها الأولى عمود يومي عنوانه (أنوار على الأحداث) خصصه لمعالجة القضايا القومية وعلى رأسها القضية الفلسطينية. وفي 26 تموز/يوليو 1969 ترك غسان صحيفة الأنوار ليتولي رئاسة تحرير مجلة الهدف البيروتية، بعد أن سجل امتيازها باسمه واعتبارها المجلة المركزية للجبهة الشعبية.

رحلته مع الأدب

وكان أدب غسان كنفاني وإنتاجه الأدبي متفاعلا دائما مع حياته وحياة الناس وفي كل ما كتب كان يصور واقعاً عاشه أو تأثر به.

"عائد إلى حيفا" وصف فيها رحلة مواطني حيفا في انتقالهم إلى عكا وقد وعي ذلك وكان ما يزال طفلاً يجلس ويراقب ويستمع ثم تركزت هذه الأحداث في مخيلته فيما بعد من تواتر الرواية.

"أرض البرتقال الحزين" تحكى قصة رحلة عائلته من عكا وسكناهم في الغازية.

"موت سرير رقم 12" استوحاها من مكوثه بالمستشفى بسبب المرض.

"رجال في الشمس" من حياته وحياة الفلسطينيين بالكويت واثر عودته إلى دمشق في سيارة قديمة عبر الصحراء، كانت المعاناة ووصفها هي تلك الصورة الظاهرية للأحداث أما في هدفها فقد كانت ترمز وتصور ضياع الفلسطينيين في تلك الحقبة وتحول قضيتهم إلى قضية لقمة العيش مثبتاً أنهم قد ضلوا الطريق.

وفي قصته "ما تبقي لكم" التي تعتبر مكملة "لرجال في الشمس" يكتشف البطل طريق القضية، في أرض فلسطين وكان ذلك تبشيراً بالعمل الفدائي.

وقصص "أم سعد" وقصصه الأخرى كانت كلها مستوحاة من أشخاص حقيقيين، في فترة من الفترات كان يعد قصة ودراسة عن ثورة فلسطين 1936 فأخذ يجتمع إلى سكان المخيمات ويستمع إلى ذكرياتهم عن تلك الحقبة والتي سبقتها والتي تلتها وقد أعد هذه الدراسة لكنها لم تنشر "نشرت في مجلة شؤون فلسطين" أما القصة فلم يكتب لها ان تكتمل بل اكتمل منها فصول نشرت بعض صورها في كتابه "عن الرجال والبنادق".

وكانت لغسان عين الفنان النفاذة وحسه الشفاف المرهف فقد كانت في ذهنه في الفترة الأخيرة فكرة مكتملة لقصة رائعة استوحاها من مشاهدته لأحد العمال وهو يكسر الصخر في كراج البناية التي يسكنها وكان ينوى تسميتها "الرجل والصخر".

المرأة وكنفاني

كان لغسان وجهاً آخر غير وجه المناضل الذي أنهكته القضية، كان عاشقاً مرهف المشاعر والأحاسيس رقيقة كلماته في الغزل والهوي، وكانت للمرأة في حياة غسان دور كبير ومحوري، ظهرت جلية في أدبه ونضاله فكان يشجع النساء في الجبهة الشعبية، كـ ليلى خالد، على مواصلة النضال والقتال.

وكانت كتبه كأرض البرتقال الحزين ومن قتل ليلى الحايك مليئة بالنساء ذوات الشخصيات القوية والإرادة الصلبة، ولعل أبرزهن زوجته آن كنفاني وحبيبته غادة السمان وابنة أخته لميس.

كانت آن امرأة دانماركية مهتمة بالشأن الفلسطيني وقدمت إلى بيروت للوقوف على أوضاع اللاجئين بالمخيمات وقد قابلت غسان بعد توصية من أحد الفلسطينيين كأحد الداعمين للقضية والعارفين بها تقول إني في أحد الحوارات الصحفية معها:

لقد دعاني إلى العشاء بعد أسبوعين على لقائنا، وكان ذلك في مقهي الغلابيني وقال قبل أن نغادر هذا المقهي أريدك أن تجيبي عن سؤالي: هل تتزوجينني؟

ولكني كما قلت من قبل فقير لا مال لي ولا هوية وأعمل في السياسة ولا أمان لي ومصاب بالسكري، فقلت له دعني أفكر، وقبل أن أقوم من مجلسي قلت له سأتزوجك وتزوجنا في نوفمبر 1961.

أنجبت آن فايز وليلى وتحسنت حالته الصحية بعد زواجه منها إذ كان يعاني من عدم الانتظام في الأكل.

المرأة الثانية في حياة كنفاني هي الأديبة غادة السمان، والتي اشتهرت رسائله الرقيقة إليها إذ كان ينشر بعضها أثناء عمله في المحرر والآخر أخذت غادة قراراً جريئاً بنشرها في ثمانينيات القرن الماضي.

تقول غادة في مقدمة الرسائل:

نعم كان ثمة رجل اسمه غسان كنفاني.. أشعر دائماً بالرغبة في إطلاقه كرصاصة على ذاكرة النسيان العربي والأسباب كثيرة وعديدة، وأهمها بالتأكيد أن غسان كان وطنياً حقيقياً وشهيداً حقيقياً، وتكريمه هو في كل لحظة تكريم للرجال الأنقياء الذين يمشون إلى موتهم دون وجل لتحيا أوطانهم.

المرأة الثالثة هي لميس ابنة أخته، والتي كان مرتبطاً بها ارتباطاً شديداً، والتي ولدت في يناير/كانون الثاني عام 1955. فأخذ غسان يحضر للميس في كل عام مجموعة من أعماله الأدبية والفنية ويهديها لها، وكانت هي شغوفة بخالها محبة له تعتز بهديته السنوية تفاخر بها أمام رفيقاتها ولم يتأخر غسان عن ذلك إلا في السنوات الأخيرة بسبب ضغط عمله.

استشهاده

استشهد غسان كنفاني عن عمر يناهز 36 عاماً على أيدي المخابرات الإسرائيلية "الموساد"، بانفجار قنبلة بلاستيكية ومعها خمسة كيلوغرامات من الديناميت في سيارته أودت بحياته وحياة ابنة شقيقته "لميس حسين نجم" 17 عاماً والتي كانت برفقته في منطقة الحازمية قرب بيروت.

مختارات من أقواله:

عن نضاله في حركة القوميين العرب يقول غسان:

"يمكنني القول بأن حركة القوميين العرب كانت تشمل بعض العناصر الشابة، وكنت من ضمنها، التي كانت تسخر من حساسية الكبار في السن تجاه الشيوعية وبالطبع لم نكن يومها شيوعيين، ولم نكن نحبذ الشيوعية، غير أن حساسيتنا ضد الشيوعية كانت أقل نسبة من حساسية المتقدمين في السن".

"إحذروا الموت الطبيعي.. ولا تموتوا إلا بين زخات الرصاص!".

"إذا كنا مدافعين فاشلين عن القضية، فالأجدر بنا أن نغير المدافعين لا أن نغير القضية".

"إن الانتصار هو أن تتوقع كل شيء وألا تجعل عدوك يتوقع".

"إن الخيانة في حد ذاتها ميتة حقيرة".

"لا تصدق أن الإنسان ينمو، لا، إنه يولد فجأة، كلمة ما في لحظة تشق صدره على نبض جديد، مشهد واحد يطوّح به من سقف الطفولة إلى وعر الطريق".

المصدر : الوطنية