لم يعد المشهد المألوف والمتعارف عليه منذ الأزل باجتماع أفراد الأسرة الواحدة للحديث والسمر من وقت لآخر واردًا، فقد بات مشهد التفرق في البيت الواحد سيد الموقف. ففي ظل الغزو التكنولوجي الهائل وانطلاق الثورة الحقيقية في عالم الاتصال والتي قلّصت المسافات المتباعدة، وقربّت الأطراف المترامية، بات "التواصل" محصورًا فقط في "مواقع التواصل الاجتماعي"، التي وجدت أصلًا للتسهيل لا للتفريق. ولا يقتصر ذلك فقط على صعيد العلاقات الأسرية، بل تغلغل ليضرب جذور المجتمع، فحتى العلاقات الاجتماعية أضحت هشة متنافرة، أساسها شاشة ولوحة مفاتيح، كما أصبح التواصل الفعّال بين الأفراد شبه منعدم.

المشكلة

لطالما كانت المشكلة في الفرد نفسه لا في التكنولوجيا، لأن الوسائل الحديثة تبقى بالأساس سمة العصر، وفق أستاذ علم النفس في جامعة الأزهر أسامة حمدونة. وأضاف حمدونة " فإذا كان هنالك وعي بكيفية استخدامها فإن انعكاساتها على العلاقات الاجتماعية والأفراد ستكون قليلة، حيث أن قضاء أوقات طويلة باستخدام وسائل الاتصال الحديثة يؤثر بشكل كبير على التفاعل بين الأفراد. وأشار إلى أن الاستخدام المفرط للوسائل التكنولوجية يعزل الإنسان عن حياته الاجتماعية، وهو أحد الأعراض غير المحمودة، " فالإنسان بحاجة للتفاعل بطريقة مباشرة وليس فقط من خلف الشاشة، لأن فوائد الاحتكاك الاجتماعي لا تقل أهمية عن تلك الوسائل". ولفت إلى ضرورة الترشيد في استخدام وسائل الاتصال الحديثة وتقليص الساعات التي يقضيها الفرد أمام الأجهزة، مؤكدًا على دور الوالدين في تنشئة أبنائهم تنشئة تكنولوجية، بمعنى توعيتهم بأهميتها وفرض قيود على استخدامها، لتعود عليهم بالفائدة دون أن تؤثر على علاقاتهم بالأسرة أو المجتمع.

"حديث بلا حديث"

وبعدما فرضت الوسائل التكنولوجية الحديثة سيطرتها، لم تعد تلك الطاولة التي كانت تشهد أحاديث الأصدقاء وضحكاتهم طيلة الجلسة كما كانت، فكل فرد يسرق نظرة على هاتفه تارة وينطق كلمات مقتضبة ودون تركيز تارة أخرى. وقال أستاذ الصحافة في جامعة الأقصى ماجد تربان: " لقد أثرت وسائل الاتصال الحديثة كالهواتف الرقمية و"السوشيال ميديا" على العلاقات الاجتماعية والأسرية، فتجد كل فرد في الأسرة متسمر أمام هاتفه ولا يدور بينهم حديث، حيث لم تعد الجلسات الأسرية واضحة، وإنما باردة إن صح التعبير. وأضاف " أن المطلوب ليس التخلص من التكنولوجيا ووسائل الاتصال، وإنما تفعيل التواصل في المجتمع وعدم الإرتكاز على هذه الوسائل"، مشيرًا إلى أن التواصل عبر "السوشيال ميديا" جيد وفعال، لكن من باب أولى أن يكون الاتصال فعّال بين الأفراد على أرض الواقع أيضًا. وأشار إلى أنه بدلًا من الاكتفاء بالنقر على أيقونة "لايك" لتقديم واجب العزاء أو التهنئة، فمن الأولى أن نقوّي أواصر العلاقات ونفعّل عملية الاتصال، كما من المفترض أن تستخدم هذا الوسائل وفق أهداف معينة يحددها الفرد كون هذه الوسائل لا تغني أبدًا عن العلاقات الاجتماعية..

الاحتكاك الاجتماعي

وعن تأثير هذه الوسائل على حياة الفرد، قالت طالبة اللغة العربية والإعلام في جامعة الأزهر رباب الحاج، إن التكنولوجيا الحديثة أصبحت الشغل الشاغل للكبار والصغار وإدمانها لم يعد مقترنًا بعمر معين. وأضافت الحاج أن "الأمر تطور لأن يفصلني عن أمي جدار وتطلب مني ما تريد عبر الـ "واتس اب" أوالـ "فيس بوك"، مشيرة إلا أنها لم تحاول تقليل استخدامها طالما تستخدمها بشكل منظم دون إفراط. بدوره، أكد الطالب محمد بكرون الذي يدرس في الجامعة الإسلامية، أن الوسائل الحديثة أدت إلى فقدان التواصل الحقيقي مع الآخرين، مشيرًا إلى أننا "أصبحنا نكتفي بالتعزية والتهنئة عبر مواقع التواصل الاجتماعي فقط". ولفت إلى أنه بعدما تنبه إلى تأثير هذه الوسائل على حياته الاجتماعية ودراسته، بعد أن كان يستخدمها بمعدل 18 ساعة يوميًا، اتخذ قراره بتقليص عدد الساعات التي يقضيها عليها، وتوطيد علاقاته الاجتماعية بالمحيطين أكثر إلى أن نجح وحقق مراده.  

المصدر :