أيام قليلة ويحل علينا ذكرى عاشوراء، والتي يستغل الكثير من خطباء المساجد والوعاظ هذه المناسبة للحديث عن فضل يوم عاشوراء خلال خطبة يوم الجمعة .

"الوطنية" تستعرض لكم خلال السطور التالية، عدد من الخطب الدينية المتنوعة التي تتحدث في يوم الجمعة عن فضل يوم عاشوراء، وهي كالتالي :-

خطبة عن فضل يوم عاشوراء :-

شاء الله الرحيم الرحمن أن ينقل عباده بين موسم طاعاته، ويفتح لهم أبواب فضله، وأغدق عليهم بآلائه ومننه؛ فمع رحيل عام وبداية عام جديد، موسم للمغفرة والرحمات والعفو عن الزلات، وقد وسّع الله لعباده أبواب المغفرة والرحمة في نهاية العام وأوله، فشرع سبحانه لعباده مواسم عشر ذي الحجة في ختام العام؛ ففتح فيها عباده كلهم حجاجًا وغير حجاج أبواب الرحمات، ويرجى لمن صام يوم عرفة أن يغفر الله له ذنوب عامين، ويبدأ المسلم عامه الجديد بصوم يوم عاشوراء؛ ليغفر الله له ذنوب سنة؛ فما أعظم فضل الله على عباده؟! وما أوسع رحمته -جل وعلا-؟!

 

وقد ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- شهر المحرم، وحث على الإكثار من الصيام فيه، وسماه شهر الله، وهذا يبرز شيئًا من فضائل شهر المحرم؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أفْضَلُ الصَّلاةِ بَعْدَ المَكْتُوبَةِ الصَّلاةُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، وأفْضَلُ الصِّيامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضانَ شَهْرُ الله المُحَرَّمُ"(رواه مسلم:1163).

 

وقد وقع في هذا الشهر أحداث عظام في هذه الأمة، وفي غيرها من الأمم، كان لها آثار عظيمة ونتائج مؤثرة، ومن أهم ما حدث في شهر المحرم، وخاصة يوم عاشوراء، إهلاك فرعون، ونجاة نبي الله موسى -عليه السلام-.

 

إن هذا الحدث يوم عظيم من أيام الله -تعالى- ينبغي علينا أن نتذكره ونتأمل فيه، قال -سبحانه-: (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ)[إبراهيم:5]، وإن من يتأمل الوقائع والأحداث عبر السنين والأعوام، تيقن أن الله -تعالى- يداول الأيام بين الناس، فقد ظن جبابرة كثيرون أن الدنيا قد استسلمت لهم، وأنهم عليها غالبون، وأن القرار لهم، والغلبة والسيطرة لهم، فهذا فرعون علا في الأرض وأفسد فيها، يستحي النساء، ويقتل الرجال، ويشرد ويدمر، ويقتل، ورفع نفسه فوق منزلته، وظن أنه ربّ يعطي ويمنع، ويحيي ويميت، ويفعل ما يحلو له، غير آبهٍ بأحد، فلما استكبر وطغى، وفجر وبغى، أخذه الله نكال الآخرة والأولى، وأهلكه ودمره ودمّر جنده.

 

إن في إهلاك الله للظالمين والطغاة آية كونية، وراحة للبلاد والعباد، وإظهارًا لقدرة الرب سبحانه في خلقه، وعظمته وجلاله وكبريائه؛ يملي للظالمين والطغاة، فتعلو كلمتهم، وتفشو قوتهم، وتعظم سطوتهم، حتى يظنوا في أنفسهم السيادة والعلو والرفعة والعزة والمنَعَة، وأنهم في ممالكهم مُمَكَّنُون، وفي عسكرهم وحرسهم آمنون، يأمرون وينهون، ويقربون ويعزلون، الخير ما استحسنوه، والشر ما عادوه، آراؤهم في الاقتصاد سديدة، وفي العلوم والفنون غير مسبوقة، .. وخلفهم همج رعاع يجيدون صناعة الطواغيت، فيؤلهون هؤلاء الطغاة، ويرفعونهم فوق قدرهم.. وعندها تحق عليهم كلمة الرب العظيم -سبحانه-، فيهلكهم ويجعل إهلاكهم من محامده وفضله -سبحانه- على خلقه، (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الأنعام:45].

 

فضلاً عن أن إهلاك الظالمين يفتح باب الأمل أمام المستضعفين لنصر من الله وفتح قريب، قال -جل وعلا-: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ)[إبراهيم:5-6]، فهل تأخذ الأمة من ذلك عبرة، حتى لا يعتريها كسل، ولا يتسلط عليها يأس؟!

 

إن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما هاجر إلى المدينة وجد اليهود يعظمون يوم عاشوراء ويصومونه، فكان له موقف وتوجيه في ذلك، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لَمَّا قَدِمَ المَدِينَةَ، وَجَدَهُمْ يَصُومُونَ يَوْمًا، يَعْنِي عَاشُورَاءَ، فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ، وَهُوَ يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى، وَأَغْرَقَ آلَ فِرْعَوْنَ، فَصَامَ مُوسَى شُكْرًا لِلَّهِ، فَقَالَ: "أَنَا أَوْلَى بِمُوسَى مِنْهُمْ" فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ. (رواه البخاري:3397).

 

فالطاعة أفضل صور شكر المنعم -تبارك وتعالى-، فصام -صلى الله عليه وسلم- هذا اليوم وأمر المسلمين بصيامه، وجعل في صومه أجرًا كبيرًا، فلما سئل -صلى الله عليه وسلم- عن صِيَام يَوْمِ عَاشُورَاء، قال: "أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ" (رواه مسلم:1162).

 

ولكنه -صلى الله عليه وسلم- أراد لهذه الأمة أن تجمع بين الخيريتين؛ خيرية طاعة الله -سبحانه- وشكر نعمة إهلاك الظالمين وإنجاء المؤمنين. وخيرية مخالفة المشركين، فنصح للمؤمن أن يخالف المشركين في احتفائه بهذا اليوم، فعن عَبْد اللهِ بْن عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، قال: حِينَ صَامَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ"، قَالَ: فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ، حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. (رواه مسلم:1134).

 

فإذا أرادت هذه الأمة خيرية وسعادة ورفعة، فلتحرص على متابعة سُنة النبي الأمين -صلى الله عليه وسلم-، وعلى مخالفة سُنَن المشركين، ولتعلم أن المشركين أهل غواية وإضلال، يحرصون على نشر الفساد والشر، وإيقاع هذه الأمة في حبائل المنكرات، فهل تنتبه الأمة في ذكرى عاشوراء إلى مصدر عزها وخيريتها المتمثل في جمعها بين طاعة ربها، ومخالفة سبل الضالين والمجرمين من أصحاب الجحيم؟!

 

ومن الأحداث الجسام في هذا اليوم أيضًا ما أصاب الأمة المسلمة من مقتل أحد أفاضلها وكبرائها، فقد فجُع المسلمون باستشهاد الحسين بن علي -رضي الله عنهما-، ولا شك أن مقتله -رضي الله عنه- مصيبة، يفرح بها العدو ويُساء بها المحب، وقد ساء أهل السنة مقتل ريحانة النبي -صلى الله عليه وسلم- وابن ابنته، ولم يفرح بهذه المصيبة إلا المفسدون والخونة من السبئيين وغيرهم.

 

وإن الشرع المطهر علمنا أن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ومع ذلك يحدث في هذا اليوم من منكرات الروافض الشيء الكثير، ويحدث فيه من البدع والمحدثات أمور كثيرة، لا يرضاها شرع ولا يقرها دين، وإنما هي أفعال جاهلية وأمور باطلة، لا ترد ميتًا ولا تنصر حقًّا، بل تولد حقدًا وتنشر جهلاً وبدعًا، فهل يستطيع  عقلاء الأمة جمع كلمتها وتوحيد صفها قبل أن تخترم بنيتها وتضيع قوتها؟!

 

ومن أجل تذكير المسلمين بفضائل شهر الله المحرم، وبيان بعض الأحداث التي وقعت فيه، وضعنا بين يديك أخي الخطيب الكريم مجموعة خطب منتقاة توضح أهم الأعمال الصالحة في هذا اليوم العظيم يوم عاشوراء وبينا السنن والمبتدعات في هذا اليوم، ونسأل الله أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في الأقوال والأعمال، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

فيديو خطبة الجمعة عن فضل يوم عاشوراء :-

 

خطبة الجمعة عن فضل يوم عاشوراء :-


إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وأمينه على وحيه ومبلغ الناس شرعه، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.

 

أما بعد:

عباد الله، فأوصيكم ونفسي بتقوى الله؛ فإن من اتقى الله وقاه وهداه إلي صالح أمر دينه ودنياه.

ثم اعلموا - رحمكم الله - أن من القصص العجيب الذي أعاده الله في القرآن وثناه قصة موسى عليه السلام مع فرعون؛ لكونها مشتملة على حِكَم عظيمة، وعِبَر بالغة، وعِظَات مؤثِّرة، وفيها نَبَأه سبحانه مع المؤمنين والظالمين بإعزاز المسلمين ونصرهم، وإذلال الكافرين وخذلانهم؛ ﴿ طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 1 - 4]، أراد الله جلّ وعلا إنقاذ هذا الشعب من ظلم فرعون وطغيانه، وتَكبُّره وعُدوانه؛ أجرى سبحانه من الأسباب العظيمة ما لم يشعر به فرعون ولا أولياؤه ولا أعداؤه؛ حيث أمر سبحانه أم موسى عليه السلام أن تضع وليدها موسى في تابوت مغلق ثم تلقيه في اليم، ووعدها تبارك وتعالى بحفظه وبشَّرها بأنه سيرده إليها، وأنه سيكبر ويسلم من كيدهم، وأنه سبحانه سيجعله من المرسلين؛ ﴿ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 7]، ففعلت ما أُمرت به وساق الله جلّ وعلا هذا التابوت وبداخله موسى عليه السلام إلى مكان قريب من فرعون وآله؛ ﴿ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ﴾ [القصص: 8]، وفي هذا عباد الله أن الحذر لا ينفع من القدر، فإن الذي خاف منه فرعون، وقتل أبناء بني إسرائيل لأجله، قيَّد الله جلّ وعلا أن ينشأ في بيته ويترعرع تحت يده وعلى نظره وكفالته، ومن لطف الله بموسى عليه السلام وأمه أن منعه من قبول الرضاعة من ثدي أي امرأة، فأخرجوه إلى السوق لعلهم يجدون مَن يقبل منها الرضاع، فجاءت أختُه وهو على تلك الحال؛ ﴿ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ﴾ [القصص: 12]. فاشتملت مقالتها على هذا الترغيب في أهل هذا البيت وبيان ما هم عليه من تمام الحفظ، وحُسن الكفالة؛ ﴿ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [القصص: 13]، ولما بلغ عليه السلام أشدّه واستوى، آتاه الله حُكْمًا وعِلْمًا، حُكْمًا يعرف به الأحكام، ويفصِّل به بين الناس، وعِلْمًا كثيرًا غزيرًا.

 

ثم جرت أحداث منها قتل موسى عليه السلام للقبطي، وتشاور ملأ فرعون مع فرعون على قتله، واجتمع رأيهم على ذلك، ويبلغ موسى الخبر، فيخرج من مصر خائفًا يترقَّب، ودعا الله - جلّ وعلا:﴿ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 21]، وأكرمه الله جلّ وعلا في رحلته تلك بالزواج من امرأة صالحة، ثم إنه سبحانه أكرمه بأعظم كرامة وحباه بأعظم نعمة، فجعله من المرسلين؛ ﴿ قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 144]، وأيَّده تبارك وتعالى بالحُجج الباهرة والبراهين الظاهرة؛ ﴿ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴾ [القصص: 32]، ويأمره تبارك وتعالى بالتوجه إلى فرعون؛ لدعوته وأمره أن يقول له قولاً لَيِّنًا لعلّه يتذكّر أو يخشى، ويطلب موسى عليه السلام من الله أن يعينه على ما حمَّله، وأن يسدّده فيما وُكِّلَ إليه؛ ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ * وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ﴾ [القصص: 33 - 34]، فأجابه الله فيما سأل؛ ﴿ قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ ﴾ [القصص: 35]، ويأتي الأمر الإلهي إلى موسى وأخيه عليه السلام لإنفاذ هذه المهمّة وأداء هذا المطلب العظيم؛ ﴿ اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى * قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى * فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى * إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ﴾ [طه: 42 – 48]. بهذا أمرهما الله جلّ وعلا ويتوجه موسى وأخوه هارون - عليهما السلام - بكلّ شجاعة وقوة وثبات؛ لتبليغ رسالة الله، وتنفيذ أمره سبحانه.

 

عباد الله:

لقد أرسل الله موسى عليه السلام بالآيات العظيمة والحُجج الباهرة إلى فرعون الذي تكبّر على الملأ وقال لهم: ﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾ [النازعات: 24]، فجاء موسى بالآيات البيِّنَات ودعاه إلى توحيد رب الأرض والسماوات، فقال فرعون مُتكبرًا وجاحدًا قال لموسى: ﴿ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الشعراء: 23]، فأنكر فرعون جحدًا وعنادًا الربَّ العظيم الذي قامت بأمره الأرض والسماوات، وكان له آية في كل شيء من المخلوقات، فأجابه موسى: ﴿ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ﴾ [الشعراء: 24] ففي السماوات والأرض وما بينهما من الآيات ما يوجب الإيقان للموقنين، فقال فرعون لمن حوله ساخرًا ومستهزِئًا بموسى: ﴿ أَلَا تَسْتَمِعُونَ ﴾ [الشعراء: 25] فذكره موسى بأصله، وأنه مخلوق من العدم، وصائر إلى العدم، كما عُدم آباؤه الأولون، فقال موسى: ﴿ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ﴾ [الشعراء: 26]، وحينئذ بُهت فرعون وادَّعى دعوى الكافر المغبون، فقال: ﴿ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ﴾ [الشعراء: 27]، فطعن بالرسول والمرسِل، فردَّ موسى عليه ذلك وبيَّن له أن الجنون حقًّا إنما هو إنكار الخالق، فقال: ﴿ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [الشعراء: 28]، فلمَّا عجز فرعون عن ردّ الحق، لجأ إلى ما لجأ إليه العاجزون المتكبرون من الإرهاب، فتوعّد موسى بالاعتقال والسجن، وخاب فقال:﴿ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ﴾ [الشعراء: 29]، وما زال موسى عليه السلام بكل ثبات ورَبَاطة قلب يأتي بالآيات كالشمس، وفرعون يحاول بكل جهده ودعايته أن يقضي عليها بالرّد والطمس، حتى قال لقومه: ﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ ﴾[الزخرف: 51 - 52]، يقصد موسى عليه السلام: ﴿ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ * فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ * فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ ﴾ [الزخرف: 52 - 56].

 

عباد الله:

وكان من قصة إغراقهم أن الله جل وعلا أوحى إلى موسى عليه السلام أن يسري بقومه ليلاً من مصر، فاهتمّ لذلك فرعون اهتمامًا عظيمًا، فأرسل في جميع مدائن مصر أن يُحشر الناس للوصول إليه لأمر يريده، فجمع فرعون قومه وخرجوا في إثر موسى متجهين إلي جهة البحر الأحمر؛ ﴿ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ﴾ [الشعراء: 61]، البحر من أمامنا، فإن خضناه غرقنا وفرعون وقومه خلفنا، فإن وقفنا أدركنا، فقال موسى عليه السلام: ﴿ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [الشعراء: 62]، فلمَّا بلغ موسى البحر، أمره الله أن يضربه بعصاه، فضربه فانفلق البحرُ اثني عشر طريقًا، وصار الماء السيال بين هذه الطرق، كأطواد الجبال، فلمَّا تكامل موسى وقومه خارجين، وتكامل فرعون بجنوده داخلين أمر الله جلّ وعلا البحر أن يعود إلى حاله، فانطبق على فرعون وجنوده، فكانوا من المغرقين.

 

عباد الله:

تأملوا هذه القصة العجيبة، وما فيها من العبر البالغة، كيف كان فرعون يقتل أبناء بني إسرائيل خوفًا من موسى فتربَّى موسى في بيته تحت حجر امرأته، وكيف قابل موسى هذا الجبَّار العنيد مُصرِّحًا مُعْلِنًا بالحق، هاتفًا بالتوحيد، ألا إن ربكم الله رب العالمين صدع بالحق أمام هذا الطاغية، فأنجاه الله جلّ وعلا منه وتأمّلوا كيف كان الماء السيال شيئًا جامدًا، كالجبال بقدرة الله تبارك وتعالى وكان الطريق يبسًا لا وَحَل فيه، وتحول إلى ذلك في الحال، وتأملوا كيف أهلك الله هذا الجبَّار العنيد بمثل ما كان يفتخر به، فقد كان يفتخر على قومه بالأنهار التي تجري من تحته، فأهلكه الله جلّ وعلا بالماء، ولا شك أن ظهور الآيات في المخلوقات نعمة كبرى يستحق الرب العظيم الحمد والشكر عليها، خصوصًا إذا كانت في نصر أولياء الله وحزبه، ودحر أعداء الله وحزبه، ولذلك عباد الله لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وجد اليهود يصومون اليوم العاشر من شهر محرم ويقولون: إنه يوم نجا الله فيه موسى وقومه وأهلك فرعون وقومه، فصامه موسى شكرًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((نحن أحق بموسى منكم))، فصامه صلى الله عليه وسلم وأمر الناس بصيامه ولما سُئل صلى الله عليه وسلم عن صيامه، قال: ((أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله)).

 

فينبغي عباد الله أن نحافظ على صيام هذا اليوم العاشر من شهر الله المحرَّم، وكذلك نصوم اليوم الذي قبله اليوم التاسع، وذلك لتحصل المخالفة مخالفة اليهود التي أمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم.

 

هذا ونسأل الله جلّ وعلا أن يوزعنا وإياكم شكر نعمه، وأن يعيننا وإياكم على طاعته، ونسأله جلّ وعلا أن ينصر دينه وكتابه وسنة نبيِّه محمد - صلى الله عليه وسلم - وعباده المؤمنين، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد الله عظيم الإحسان، واسع الفضل والجود والامتنان، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعد:

عباد الله:

فاتقوا الله تعالى وراقبوه سبحانه مراقبة مَن يعلم أن ربَّه يسمعه ويراه، ثم اعلموا - رعاكم الله - أن المؤمن حريص في هذه الحياة على أسباب السّعادة، ونيل رضا الربِّ تبارك وتعالى والمسابقة في مرضاته، وتحرِّي كل أمر يقرب منه سبحانه والله جلّ وعلا جعل لهم في حياتهم مواسم مباركة يتنافس فيها المتنافسون، ويُقبل عليها المجدّون الحريصون عل التقرُّب إلى الله - جلّ وعلا.

 

عباد الله:

وإن يوم العاشر من المحرَّم يوم عظيم مرَّ معنا شيء يتعلق بقصته، وما ينبغي أن يكون عليه المسلم من شكر الله عز وجل فيه، وذلك بالصيام كما فعل الرسول الكريم - عليه الصلاة والسلام - فينبغي علينا عباد الله أن نحرص على صيام اليوم العاشر من محرم، وأن نصوم يومًا قبله تأسِّيًا بالنبي الكريم - عليه الصلاة والسلام - وطلبًا لتحصيل الثواب الذي أعده الله جلّ وعلا لمن صام ذلك اليوم، وقد مرَّ معنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله)).

 

عباد الله:

صيام يوم واحد يكفر سنة كاملة والمراد بما يكفره صيام يوم عاشوراء في السنة الكاملة هو الصغائر دون الكبائر، أما الكبائر عباد الله فلا يكفرها إلا التوبة إلى الله جلّ وعلا فعلينا عباد الله أن نقبل على الله جلّ وعلا تائبين مُنبين مستغفرين من كل ذنب وخطيئة، وأن نحرص على المواسم المباركة التي يتنافس فيها المتنافسون، ويُقبِل فيها المجدون على طاعة الله جل وعلا وابتغاء مرضاته.

 

والكَيِّس عباد الله من دَانَ نفسه، وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنَّى على الله الأماني.

 

وصلوا وسلموا - رحمكم الله - على محمد بن عبدالله؛ كما أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((مَن صلى علي واحدة، صلى الله عليه بها عشرًا))، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم؛ إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم؛ إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين؛ أبي بكر الصديق، وعمر الفاروق، وعثمان ذي النورين، وأبي السبطين علي، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، ومن اتبعهم بإحسان إلي يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.

 

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمّر أعداء الدين، واحم حوزة الدين يا رب العالمين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيِّك محمد - صلى الله عليه وسلم - وعبادك المؤمنين، اللهم أمِّنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضى، وأعنه على البر والتقوى وسدده في أقوله وأعماله يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وفق ولاة أمر المسلمين للعمل بكتابك، واتباع سنة نبيِّك محمد - صلى الله عليه وسلم - اللهم آت نفوسنا تقواها، زكها أنت خير من زكاها، أنت وليُّها ومولاها، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر، اللهم اغفر لنا ذنبه كله؛ دقه وجله، أوله وآخره، سره وعلنه، اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنَّا، وما أنت أعلم به منَّا أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت، اللهم اغفر ذنوب المذنبين، وتب على التائبين يا حي يا قيُّوم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وللمسلمين وللمسلمات؛ والمؤمنين والمؤمنات؛ الأحياء منهم والأموات.

 

اللهم إنا نسألك من الخير كله؛ عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله؛ عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، اللهم إنا نعوذ بك من العجز ومن الكسل، ومن الهرم وسوء الكبر يا حي يا قيُّوم يا ذا الجلال والإكرام، ربنا إنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا، لنكونن من الخاسرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقِنَا عذاب النار.

 

عباد الله، اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

 

المصدر : وكالات