أقحمت حركة "حماس" بإصرار عجيب، الانتخابات الرئاسية مع نظيرتيها (التشريعية والمجلس الوطني) في زاوية ضيقة من المفهوم الواقعي، لأن الحالة الفلسطينية الداخلية غير مُهيئة للانغمار في الانتخابات الشاملة، وذلك لعدم تحقيق المصالحة بين "فتح وحماس" بعد جولات وصولات في عدة عواصم عربية.

وتفصيل الانتخابات وفق مقاس خاص لكل من الطرفين، والاعتراض على حكومة اشتية الحالية بحكم أنها شكلت رغمًا عن حماس والجهاد والجبهتين الشعبية والديمقراطية، وهجر قيادات "فتح وحماس" للقاءات الثنائية مع عدم تخليهما عن عادة الاتهامات المتبادلة وتحميل طرف مسؤولية ما آل إليه الوضع الداخلي منذ سنوات.

المحكمة الدستورية التي شكلت بقرار من الرئيس قد أوصت، نهاية العام الماضي بعد أن حلت المجلس التشريعي المعطل من عام 2007 رسمياً والمفعل من كتلة حماس البرلمانية بغزة وحتى يومنا هذا، بإجراء انتخابات تشريعية. والانقسام بين "فتح وحماس" يزداد عمقًا وجرحًا في الجسم الفلسطيني منذ 12 سنة.

"قطبا الانقسام"، المصطلح الذي يزعج قادتهما على أنه تهمة تلاحقهما وهما بريئان منه، يعبران عن رغبتهما بالانتخابات العامة "التشريعية والرئاسية والمحلية،  احتكامًا لخيار الشعب ولتجديد الدماء في المؤسسات الوطنية والرسمية.

فحركة فتح رفعت شعار الانتخابات العامة مع مرادها تمكين حكومة محمد اشتية الحالية في غزة كما كانت تطالب للحكومة السابقة، لكنها بذات الوقت تسعى جاهدةً لتنفيذ دعوة المحكمة الدستورية المتعلقة بإجراء انتخابات تشريعية. ما جعل الرئيس محمود عباس، يرسل رئيس لجنة الانتخابات المركزية حنا ناصر إلى غزة للجلوس مع "حماس" لإقناعها بالموافقة عليها.

فكان جواب "حماس" حازماً، وقتها عبر عضو المكتب السياسي للحركة خليل الحية عقب اجتماع قيادة الحركة برئاسة هنية مع ناصر في غزة، حيث أبدت جاهزيتها للدخول بانتخابات شاملة (رئاسية وتشريعية وهيئات محلية) ثم التوافق فيما بعد على انتخابات مجلس وطني الذي يعد من أجسام منظمة التحرير.

وتظل "حماس" متمسكة بعنادها هذا، الذي يعطي ربما مؤشر الثقة بالنفس ورفع تحديها لفتح مرة أخرى كما فعلتها عام 2006. أم أنه مجرد قناعة لديها، بأن الانتخابات العامة لن تجرى إلا بالتوافق الوطني، إذ تصر "فتح" على تحقيق المصالحة وتمكين الحكومة أولاً ثم الذهاب إلى انتخابات شاملة، مع الالتزام ببرنامج المنظمة.

ما أشرت إليه في جزئية الثقة بالنفس ورفع سقف التحدي مع "فتح"، تتطابق مع رؤية الكاتب السياسي- المقرب من حماس، مصطفى الصواف الذي قال في حديثه "للوطنية"، إن أدبيات وبيانات أكدت جاهزية الحركة لإجراء الانتخابات، ولدى الحركة الاستعداد لذلك من خلال عملها الجاد لإتمامها، ولا أحد يسمع ويرى يستطيع إنكار ذلك.

الصواف شكك في قدرة "فتح" على خوض الانتخابات "الرئاسية والتشريعية"، لأنها تخشى خسارتها وأنها ليست جاهزة لها. وأكد أن الذي يعني الرئيس في هذه المرحلة هو كرسي الرئاسة.

"فتح" ترغب بإجراء انتخابات تشريعية ثم التمهيد للباقي (الرئاسي ومجلس الهيئات المحلية)، لأن الحالة الداخلية من وجهة نظرها هي نفسها التي ذكرناها سلفاً في هذا النص، مع التأكيد على أهميتها كونها استحقاق قانوني ودستوري كفله القانون الفلسطيني والذي أعطى المواطن حق اختيار من يمثله كل أربع سنوات، لكن الرئيس عباس استمر في السلطة إلى يومنا هذا، لا سيما أن ولايته الدستورية انتهت بعام 2009، بينما شهدنا أكثر من حكومة بعد تاريخ الانقسام. معظمها شكلت بقرار من الرئيس وواحدة شكلت عام 2014 بالتوافق الوطني. وهذه الرغبة جعلت الصواف يعتبرها أنها مجرد "حجج واهية" ليس أكثر، وقال إن إجراء الانتخابات بشكل كامل بالتوازي، مسألة ترجع إلى الخبراء والفنيين الذين يقيمون ويقررون متى وكيف تجرى؟.

مدير دائرة المفاوضات في مركز التخطيط الفلسطيني جمال البابا، جاء ليختلف مع الصواف في قوله إن "فتح" تخشى الانتخابات، ليؤكد الأول أن "فتح" لا تمانع من إجراء انتخابات رئاسية، مشيراً إلى حالة الفراغ الدستوري الذي ظهرت بعد حل المجلس التشريعي الذي خلق قرار حله موجة غضب واحتجاج واسعة من حماس والفصائل الأخرى وبعض نواب من فتح المحسوبين على "تيار دحلان".

ويحاول البابا اقناعنا بأن "فتح ليس كما تعتقد حماس أنها تخشى الانتخابات الشاملة، قائلاً:" إن فتح لا تمانع من إجراء الانتخابات الشاملة ضمن اتفاق وطني واستناداً لاتفاق المصالحة الأخير عام 2017، والاتفاق على مرجعيات تحكمها الانتخابات تكون المنظمة مرجعية السلطة وكل المؤسسات.

وترى "فتح" بضرورة تأجيل انتخابات المجلس الوطني لأسباب سياسية ذاتية وموضوعية متعلقة بالوضع الداخلي، والسبب الذاتي يتمثل بعدم دخول بعض الفصائل في المنظمة كحماس والجهاد، بحسب وجهة نظر البابا، بينما "فتح" ترفض زج حماس والجهاد في المنظمة قبل إنهاء الانقسام.

ويشير إلى أن الانتخابات في شقيها الرئاسي والتشريعي ضرورة سياسية ومطلب شعبي، تسعى القيادة من خلالها إلى تسويق نفسها أمام العالم الخارجي أنها قيادة اختارها الشعب ومتجددة ديمقراطياً.

ويجزم البابا وفقًا لرؤية (فتح المقرب منها)، بأن الانتخابات أصبحت مخرجًا سياسيًا للأزمة السياسية الراهنة، لا سيما مع بقاء سيطرة حماس على قطاع غزة (فشل فتح في إرجاعه لحضن الشرعية) وتعطيل مسار التسوية، ليصبح ما ذكر أنه خيار مهم لدى المنظمة والسلطة الفلسطينية.

وصارت نظرة حركة "فتح" التي فقدت ثقتها بحماس وهذا ما لمسناه من مسؤول ملف المصالحة فيها عزام الأحمد مؤخراً وحدته في التعامل معها، للانتخابات مغايرة عما قبل، اعتقادًا منها أنها الطريق الأقصر نحو استعادة الوحدة بين الضفة وغزة. ويبدو أن هذا الطريق متعثر منذ بدايته، لوجود سلطتين واحدة في الضفة وأخرى بغزة، بالإضافة إلى عدم اعتراف حماس بحكومة اشتية الحالية ورغبتها بتشكيل حكومة وحدة وطنية، مثل ما شكلتها مع فتح والفصائل عام (2014) لتحضر للانتخابات.

موقف حركتي فتح وحماس، أغرق الشارع الفلسطيني في دوامة (الانتخابات تسبق المصالحة أو المصالحة تسبق الانتخابات)، إذ يرى البابا أن "حماس" لديها قناعة بأن الانتخابات لن تجرى في ظل الانقسام وغياب التوافق الوطني، بينما "فتح" تفضل المصالحة على الانتخابات لمنع انفصال الضفة عن غزة وإسقاط كافة المشاريع الإسرائيلية-الأمريكية الهادفة لتصفية القضية الفلسطينية، التي من أخطرها "صفقة القرن".

وإذا كانت مستعدة فعلاً "حماس" للانتخابات الرئاسية كما أبلغت الرئيس بذلك عن طريق حنا ناصر خلال لقائها بالأخير قبل أشهر، ليعقب الباحث السياسي جمال البابا (الذي أطلنا معه الحديث أكثر من غيره)، لإعداده مجموعة أبحاث متعلقة بالوضع الفلسطيني الداخلي، قائلاً إن حماس ليست معنية بمرشح رئاسي، فهذا أسوأ خيار، لا سيما أنه خيارُ مطروح ومقبول ويجدد الشرعيات التي اعتبرها الصواف أنها منتهية وبحاجة إلى إنعاش جديد.

"حماس" أشركت الانتخابات الرئاسية في المناكفات السياسية، ظناً منها أن مجال المناورة والمفاوضات مطروح الآن، كونها تعي ما كتبناه في السابق، بأن الانتخابات لن تجرى إلا بتوافق مع "فتح"، حيث أن ناصر يمارس دورًا إجرائيًا فقط، تنفيذاً لقرار المحكمة الدستورية وليس فردًا يضغط على الطرفين لقبول هذه الانتخابات أو تلك، حسب قول البابا.

وعن طبيعة شكل حماس في الانتخابات التشريعية، أشار البابا إلى أن "حماس" تعتقد أنها ستحصل على مجموعة من المقاعد من ضمنها مقاعد المعارضة، لكي تتخلص من عبء الحكم أولاً، ثم تتربع على النظام السياسي، وتتخلص من استحقاقات المرحلة القادمة التي وصفها بالصعبة، وهي من يكون الحاكم ليتحملها.

والانقسام أفشل حكومة الوفاق الوطني الذي كان يترأسها رامي الحمد الله من عام 2014 بمهامها الأساسية وهي: تحقيق المصالحة وتهيئة الساحة الداخلية للانتخابات، ما جعل الرئيس محمود عباس يقيلها ويكلف عضو اللجنة المركزية لحركة فتح محمد اشتية بتشكيل حكومة خلفاً لها، وهي اليوم تمارس عملها بنفس أرضية الحكومات السابقة، لكن بظروف مختلفة وتحديات جمة، وفي رحاب أزمة مالية حادة لم تعشها السلطة الفلسطينية قبل ذلك.

ورأت حماس والجهاد الإسلامي وبعض الفصائل اليسارية (المتخاصمة مع الرئيس) كالشعبية والديمقراطية، أن تشكيل هذه الحكومة، يعد انقلابًا على اتفاق الشاطئ والاتفاقيات الموقعة، وتعميقًا للانقسام، في المقابل دافعت فتح عنها وتطلب بأن تمكن من العمل في غزة كما في الضفة، حتى تحضر للانتخابات، وتسعف ما يمكن إسعافه في الحالة الوطنية.

وبعد ما سبق، لم نجد إجابة مقنعة على سؤال يجول ويصول في ذهن كل فلسطيني أغلب الوقت، وهو " لماذا يصر الرئيس على إجراء انتخابات تشريعية دون غيرها؟. في ظل معارضة "حماس" لها وإصرارها على إجراء انتخابات عامة ( رئاسية وتشريعية ومجلس وطني).

فكانت الإجابة بناءً على قراءتنا الواضحة لتصريحات قادة فتح والمنظمة، وهي أن الحالة الفلسطينية اليوم غير قادرة على الانغمار في انتخابات عامة في ضربة واحدة، وإنما على مراحل تبدأ بالتشريعي، والطرف الذي يكسب يشكل الحكومة كما جرى عام 2006، ثم بسط الأرضية الديمقراطية بفراش الانتخابات الرئاسية.

ويُستبعد إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية في آن واحد، أو حتى تجديد الدماء في مؤسسات منظمة التحرير كالمجلس الوطني والمركزي، بناءً على المؤشرات التي تدل أننا في حالة جمود سياسي رهيب، قد تتفكك إذا تمكنا من اقتلاع الانقسام من شرشه المثبت بشراسة بباطن الأرض وإعطاء المواطن الفلسطيني في الوطن والشتات ومخيمات اللجوء، الحق في اختيار من يمثله لبناء مؤسساته الوطنية والرسمية من جديد، لتفتح الأبواب المتآكلة من صدأ الانقسام نحو الانفراج السياسي وإعادة اللحمة للبيت الفلسطيني، لكن هذا مرتبط بالإرادة السياسية وتعزيز الثقة بين "فتح وحماس"، للتفرغ للقضايا الكبرى والاتفاق على مشروع وبرنامج سياسي واحد يتفق عليه الجميع، ويمكن الشعب من الصمود ويزيد قدرته على التصدي للاحتلال الإسرائيلي ولكل المخططات الرامية لتصفية قضية الشعب الفلسطيني وتحقيق حلمه في الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.

المصدر : الوطنية - ليث شحادة