تعيش غزة حالة بائسة على الدوام، وهي تنتظر بشغف كل مرة، قدوم السفير القطري محمد العمادي إليها، حاملاً معه "الدولار الأمريكي" المعروف عامياً لدى الفلسطينيين بـ "الأخضر"، لسكانها الذين صنفت نصفهم الإحصاءات الأخيرة، على أنهم "فقراء".

فهذه الحالة التي قد تتحول وتصبح "مذلة"، بمجرد قراءة خبر يخُص العمادي ومنحة بلاده المالية في الإعلام. وهنا أقصد الإعلام الإسرائيلي الذي يملك المعلومة الحصرية دائماً فيما يتعلق بطبيعة جدول أعمال العمادي في غزة. فهو الوحيد القادر على الإجابة في رحاب سؤالين يترددان في ذهن أي فلسطيني مصنف في كشوفات "العائلات الفقيرة والمستورة"، وهما: متى يصل العمادي إلى غزة؟، وما مصير المنحة القطرية؟

وأجابت على السؤالين، صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية حينما قالت إن السفير القطري وصل إلى قطاع غزة ومعه 15 مليون دولار، فيما تم نقل 10 أخرى إلى "إسرائيل" من أجل دفع ثمن الوقود الخاص لمحطة توليد الكهرباء في قطاع غزة، مشيرةً إلى أن 10 ملايين دولار من التي أدخلها العمادي ستصرف نقداً بواقع 100 دولار للأسر الفقيرة في قطاع غزة. ونوهت الصحيفة أن مبلغ 5 ملايين المتبقية سيتم تحويلها نقداً لصالح مشاريع العمل التابعة للأمم المتحدة، لضمان توفير فرص عمل وتوظيف مؤقت لسكان القطاع.

وحين يصل العمادي-صاحب مقولة (نبغي هدوء)- إلى قطاع غزة قادمًا من إسرائيل ويلتقط صوراً مع قادة حركة حماس، تتحول بعض الصفحات على موقع فيسبوك إلى ترمومتر، لتقيس حرارة أجساد أرباب الأسر الفقيرة، ليجد كل من اقترب من أجسادهم أنها مرتفعة بجنون، بسبب مرض كُشف مؤخراً وهو "100 دولار". فالعمادي وحده من يملك العلاج !.

فحرارة أجسادهم قادتهم بسرعة البرق إلى مكاتب البريد المخصصة لصرف المنحة المالية، على أمل أن يلامسوا ورقة "100 دولار" ويشموا رائحتها ( القطرية والإسرائيلية) بالرغم أن رائحتها الأصلية أمريكية.

لكن أملهم هذا المحمل بشغف الانتظار غدرهم، وجعلهم يعودون إلى منازلهم خالي الوفاض بعد ساعات طويلة من الانتظار تحت أشعة الشمس الصيفية، كما أوضحته عدسات الصحافة قبل أيام.

هؤلاء الذين نتحدث عنهم ضربوا موعداً مع هواجسهم، ثم قرروا الإبحار في الأقاويل، ليسمعوا ويقرؤوا من الإعلام أن هناك اختلافاً بين وزارة الشؤون الاجتماعية والجانب القطري على طريقة الصرف، وتارة يُقال إن إسرائيل حجبت أسماء قد سجلت في السابق أو سجلت حديثاً.

لكنهم يعرفون أن منقذهم الوحيد هو العمادي، حين يجلب المال بسيارته الخاصة ويشرف على التوزيع كما جرت العادة في الفترات الماضية.

والشاب محمد النجار كان يراقب الإعلام على مدار اللحظة، ليعرف ما إذا كان العمادي قد وصل غزة أم لا، ليس حباً واهتماماً بذلك الشخص، بل لأجل عيون الـ"100 دولار" التي قد تهون عليه مؤقتاً أعباء الحياة المثقلة بالهموم والشقاء، كونه نموذج صغير يبزر حال آلاف الشباب المتزوجة والعازبة في غزة.

النجار خلال حديثه للوطنية، قال إنه شعر بالذل حين استلم المنحة المالية في ثلاثة مرات سابقة، لكنه مجبور على استلامها ويتمنى أن يستلم مرة ثم مرة، إلى حين أن يجد فرصة عمل كريمة له.. وحينها فقط، لن يحتاج العمادي أو غيره.

الأموال القطرية التي خصصت في المرحلة الجديدة، ولاقت الرضى الإسرائيلي، أجبرت العمادي على إصدار بيانٍ ليوضح فيه، أن سبب تأخر صرف المساعدات النقدية للأسر الفقيرة (100 دولار) يرجع لأسباب فنية، نافياً كافة الأخبار المتداولة حول سحب أموال المنحة أو وقف صرفها، مؤكداً أن عملية صرف المساعدات النقدية ستتم خلال أيام عبر مكاتب البريد في محافظات القطاع.

وإذا عندنا إلى أصل حكاية المنحة القطرية، نجد إن غزة انطلقت بشغفٍ واحتكت بالذل واصطدمت بالإحباط، بفعل وقوعها تحت ضرس إسرائيل، كونها جزءًا من مسألة تفاهمات التهدئة.

عماد بكير الذي استلم المنحة المالية أكثر من مرة وكان آخرها في شهر مايو الفائت، يصارحنا قائلاً إنه بعد أن استلم منحة الـ "100 دولار" توجه على الفور إلى بيته، ليشارك فرحته مع زوجته وأولاده، وسُئل: ماذا فعلت بها؟، أجاب: لقد ذهبتُ إلى السوق لشراء ما تحتاجه أسرتي، من لحمة وبقوليات وخضروات، فقد صرفت نصفها وأبقيت النصف الأخر معي لأجل علاج ابني المريض".

وتسلم حوالي 100 ألف شخص مصنفة أسرته على برنامج "الأسر الفقيرة" في الأشهر السابقة، منحة الـ "100 دولار"، بينما حجبت إسرائيل آلاف الأسماء باعتبار أنها المتحكمة بالمنحة القطرية وهي التي تقرر من الذي يأخذ ومن لا يأخذ، وسط انزعاج خفي من حركة حماس والفصائل القريبة منها، من سياسة الابتزاز التي تنتهجها إسرائيل تجاه غزة، وهذا ما جعلهم يحذرون من الاستمرار بها، وأبلغوا الوسطاء المشرفة على تفاهمات التهدئة بذلك.

وتبتز إسرائيل الفلسطينيين في غزة، وتماطل في تنفيذ بنود تفاهمات التهدئة التي أبرمت بوساطة أممية وقطرية ومصرية، فعندما يطلق بالون حارق من غزة أو حتى صاروخ باتجاه المستوطنات، تمنع إسرائيل دخول المنحة القطرية وتقلص مساحة الصيد البحري وأحياناً تفرض طوقاً بحرياً، وتغلق المعابر.

الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم ورد في مقاله جزئية تلخص حالة غزة اليوم، حيث كتب:" خلال الثلاثة عشر عاماً الماضية والتحذير بأن غزة على هاوية الانفجار والغرق في بحرها الملوث بوسخ الانقسام والحصار، تم التعامل معها على هذا الأساس من دون تقديم أي حلول عملية لإنقاذها واكتفى الجميع بالتحذير، مع أنها تفجرت إلى أشلاء جراء الحروب المتتالية والعدوان المستمر، والوعود بالتهدئة وتفاهمات التحسينات والتسهيلات".

ولقطر دورٌ نشطٌ في قطاع غزة منذ سنوات، فقد نفذت العديد من المشاريع الإنسانية والخدماتية بتكلفة ملايين الدولارات، في المقابل ترى القيادة الفلسطينية أن أي دعم يُخصص لغزة، بدون وجود السلطة الفلسطينية، يعزز الانقسام ويؤدي إلى انفصال ما بين الضفة وغزة.

ويعاني معظم الفلسطينيين في قطاع غزة من الفقر، وعدم القدرة الاقتصادية على تأمين الغذاء والذي يعدّ السبب الرئيس لانعدام الأمن الغذائي، اذ أن اقتصاد القطاع في حالة هبوط حادّ ومستمر، وقد سجّل انخفاضا بنسبة 6% خلال عام 2018، ومعدل بطالة يبلغ 52% ويتجاوز 70% في أوساط الشباب، ويعاني نحو 1.3 مليون نسمة (68% من الأُسر في قطاع غزة) من انعدام الأمن الغذائي بدرجة حادة أو متوسطة، في حين تبلغ نسبة انعدام الأمن الغذائي في الضفة الغربية 12% فقط، بحسب إحصاءات الأمم المتحدة.

المصدر : ليث شحادة_ الوطنية