يتقاذفون الجرحَ بين الوتر والوتر.. ويُهوّنون حجم الهمّ بين أضلعهم الصغيرة بين كلّ ضربة إيقاعٍ وضغطة مفتاح موسيقي.. وتنقلهم الاهتزازاتُ الصوتيةُ بين عوالم شتّى؛ ينسابون -بانسيابٍ- في حبّها وفي بنفسجيتها.. فهم يحبّونها وتحبّهم.. ينفثُون الهمّ بالتتابع بالنفخ في آلاتٍ صنعوها بإمكانياتٍ بسيطةٍ تُصدرُ أحلى الألحان وأشدّها مرارة..!

هم أطفالٌ فلسطينيون يعيشون في قطاع غزة.. تلك البقعة المحاصرة والمتوتّرة دوماً.. حيث يحاولون أن يصنعوا السلام الداخليّ؛ رغم كلّ ذاك الوجع والألم الخارجيّ.

الإقبال يزداد رغم أنه لا يوجد في قطاع غزة سوى حوالي 4 مؤسساتٍ متواضعةٍ ومعهدٍ واحدٍ فقط لتعليم الموسيقى والغناء؛ إلى جانب تنمية الموهبة عند بعض الأطفال؛ على يد بعض الفنانين والفنانات الغزّيين القلائل الموجودين في غزة بشكلٍ مجانيٍّ عبر علاقات الصداقة والعائلة، ناهيك عن توجّه بعض الأطفال -بمساعدة عوائلهم- لتعلّمها "أون لاين" من خلال دروس الشرح المختلفة على موقع اليوتيوب.

الموسيقى محاصرة..!

"إسماعيل داوود" مدير فرع "معهد إدوارد سعيد للموسيقى" في غزة قال: "الآلة الموسيقية محاصرةٌ؛ بسبب إغلاق المعابر، وبالكاد نستطيع استيراد بعض الآلات؛ حيث قلّ عددها في المعهد، إلا أنه -وبرغم ذلك- لازلنا نستقبل الأطفال ذكوراً وإناثاً".

 ويستقبل "المعهد" الأطفال من عمر (7-16) عاماً حيث وصلّ عدد الطلاب في العام الجاري (2017) إلى حواليّ (200) طالبة وطالب.

Image

وتصلُ رسوم تعلّم الموسيقى في "المعهد" إلى (1000)  شيكل سنوياً (ما يعادل 270$) "وهذه رسومٌ مخفّضةٌ لغزة استثنائياً؛ بسبب الوضع الاقتصاديّ، ورسوم الدراسة الحقيقية (4200( شيكل سنوياً (ما يعادل 1300$)" حسب داوود.

وحول المنح الدراسيّة لذوي الدخل المحدود؛ أشار "داوود" إلى أنه "يوجد في "المعهد"  قسمٌ خاصٌ للمنح؛ يغطي 30% وقد يصل إلى 100% من رسوم الدراسة؛ بناءً على تقرير لجنةٍ خاصةٍ تنظرُ في طلباتِ المنح، لها معاييرها الخاصة؛ أهمها موهبة الطالب، ودخل ربّ الأسرة وعدد أفرادها".

الطالبة "روزانة المدهون" (11 عاماً) تتلقّى التدريب على عزف آلاتٍ مختلفةٍ منذ (4) سنوات في المعهد؛ قالت: "على الرغم من وضعنا الماديّ الجيد؛ إلا أنّ الأسرة عانت مؤخراً من ضغطٍ ماديٍّ بسبب الأوضاع الصعبة التي يُعاني منها القطاع بشكلٍ عامٍ، لكنّ ما دفعني للاستمرار؛ هو نظام التسهيل المُتبّع في المعهد، وتقسيط الرسوم على دُفعات" موضحةً أنّ "الموسيقى بالنسبة لي شيءٌ أساسيٌّ لتفريغ طاقتي السلبيّة؛ بعد ساعات دوامٍ مدرسيٍّ طويلة، وفي ظلّ عدم وجود أفقٍ لأيّة انفراجةٍ قريبةٍ لقطاع غزة".

وأضافت: "أحب الموسيقى العربية الأصيلة، وأحاول -من خلال عزفي- العودة إلى أصول الفنّ العربي الأصيل؛ بعيداً عن هذا الصخب المنبعث من الكثير من الأغنيات والألحان الجديدة".

Image

أما "رزان القصان" (11عاماً) فتتعلم العزف على آلة (التشيلو) منذ عامين في "المعهد" فقالت: "حبُّ الموسيقى وتشجيع الأهل لي؛ مع وجود تخفيضٍ للإخوة على الرسوم في المعهد؛ ساعدني على الاستمرار بالتعلّم؛ لأصل لتحقيق حُلمي في الاحتراف" منوهةً إلى أنه "كان  للموسيقى دوراً إيجابياً في زيادة تحصيلي الدراسيّ".

يُذكرُ أنّ بعض تلاميذ "معهد إدوارد سعيد" قد وصلوا إلى النهائيات في بعض المسابقات المحلية والعربية كان آخرها مشاركة الطفل محمود كحيل (17) عاماً مع ثلاثة من زملائه في برنامج (Arab Got Talent) وحصل على "الباز الذهبي".

وتعرّض المعهد خلال الحرب على قطاع غزة عام 2009 لقصف طائرات الاحتلال الإسرائيلي خلال استهدافها لمسرح "الهلال الأحمر" المجاور له، وحينذاك توجّه أطفال "المعهد" وعزفوا أعذب وأشجى الألحان على رُكامِه، ولا يزال "المعهد" يحتفظ ببقايا من تلك الآلات المحترقة.

Image

الفنان التشكيلي، ووكيل وزارة الثقافة في حكومة التوافق الوطني، فايز السرساوي، أكد أن الإقبال على تعلم الموسيقى في غزة من قبل الصغار والكبار بدأ يأخذ منحى أكثر جدية ووضوح خاصةً منذ تأسيس معهد إدوارد سعيد منذ أكثر من 15 عاماً، مشيراً إلى أن إقبال الأطفال من كلا الجنسين مؤخراً بات ملحوظاً في ظل الظروف الخانقة التي يعيشها قطاع غزة، وهو ما يجب أن يدفع أولياء الأمور والمدارس بأن يهيئوا الأجواء لأطفاله لتعلم الموسيقى ومختلف الفنون الثقافية، وأن تكون الموسيقى جزء أساسي من النشاط اللامنهجي في المدارس فهي من تعلهمهم احترام الوقت والتفكير الإبداعي وإيجاد حلول غير تقليدية لهمهم المتواصل.

حياةٌ ملوّنةٌ.. بالإيقاع.. !

الفنّان والملحن "مسعود الدريملي" والذي تمكّن من أن يؤسّس ستوديو متواضعاً داخل بيته يُنتج عبره أعذب المقطوعات الغنائية يقول: "هناك لهفةٌ لدى الأطفال -لا سيّما الصغيرات- والذين يتوافدون إلى بيتي لتعلّم الموسيقى، ومحاولتهم إجادة أداء بعض الأغنيات الوطنية المشهورة" مضيفاً: "الجميل في هؤلاء الأطفال هو توجه أغلبهم للموسيقى الطربية الأصيلة، وحبّهم للتراث الفلكلوريّ الفلسطينيّ، وهو ما يزيد في إنعاش هذا اللون؛ الذي بدأ يطغى عليه اللونُ الغربيّ الصاخب".

ويتابع: "ألحظهم كيف يتحسّسون بأكفّهم الناعمة ظهر العود، ويُدخلون –خلسةً- أناملَهم الصغيرةَ بين أوتار الجيتار المشدودة.. فيما تدور أعينُهم في المكان بحثاً عن الريشة.. ولكن ما يؤلمني هو ضيق المكان والوقت لدي لاستيعابهم بأكملهم .. هم بأمسّ الحاجة لأن يتمّ تبنّي مواهبهم الحقيقية؛ والتي يمكن من خلالها أن يكونوا صوت فلسطين النابض محلياً وعالمياً".

وشدّد على أنه "يجب ألا تتوقف نغمات الموسيقى في غزة بسبب الحصار أو الفقر أو الحرب أو أيّ شيء، فهي ما يلوّن إيقاع الحياة لدى الصغار بأبهى الألوان".

"رزان طليب" ابنة الخمسة عشر ربيعاً هي إجدى الفتيات اللواتي يتعلّمن عزف الجيتار على أيدي الفنان "الدريملي" غالباً ما تُفضل أن تعزف الجيتار بجانب نبتة "الألوفيرا" التي زرعتها داخل إصيصٍ صغيرٍ في شرفة البيت فترويها بالعزف والماء بانتظام.

تقول: "أشعر أنّ عزفي يزيد نموّها أكثر من الماء.. أنا وهي والجيتار ننمو ونسمو معاً عبر  أجمل الألحان والأصوات"..!

وتضيف بعيون دامعة: "لا أخشى صوت الصاروخ بقدر خشيتي من أن يسكن صوت الموسيقى بغزة بسبب الحصار والفقر والتهديد الدائم بالحرب".

والدة "رزان" أكدت أن ابنتها كانت لا تكلّ ولا تملّ من الإلحاح والإصرار على طلبها أن يعلّمها خالُها الفنّان العزف على الجيتار، فيما كانت هي غير متشجعةٍ؛ خشية أن يؤثّر على تحصيلها الدراسيّ؛ خاصةً أنها من المتفوّقات، لكنّ ما اكتشفته هو أنّ تحصيلها العلميّ لم يتأثّر؛ بل زاد من سرعة فهمها وصبرها على بعض المسائل الحسابية المعقّدة".

Image

 

نتعلم "أون لاين"

أما "محمد" الذي لم يتجاوز الأحد عشر عاماً ويقطن في مخيّم الشاطئ غرب مدينة غزة؛ فيسرد بداياته مع الموسيقى، وكأننا نستمع لنصٍّ إيقاعيٍ مفرحٍ ومبكٍ في آنٍ واحد؛ إذ يقول: "كان أبي يشجّع أمي على الاستماع للموسيقى الكلاسيكية من لما كنت جنين في بطنها.. كان يقول لها: هلأ متل ما بتسمعي هو بسمع.. ويمكن بيرقص كمان".

ويبتسم متابعاً: "بدأتُ أتعلّم الموسيقى داخل البيت؛ حيث بدأ يعلّمني أبي العزف على عودٍ قديمٍ يمتلكه، وبدأت ببعض المقطوعات البسيطة ودندنة بعض الأغنيات الطربيّة القديمة لأم كلثوم ولعبد الحليم حافظ، ومحمد عبد الوهاب، ومن ثمّ؛ بدأتُ أحاول أن أعزف مقطوعاتٍ خاصةً بي أبهرت جميع من كان يسمعها ممن لديهم آذانٌ موسيقية".

يُكملُ بشيء من الحزن: "أبي يدرك جيداً أن موهبتي ومهاراتي في العزف على العود تحتاج للتدريب المتواصل في مدرسةٍ متخصّصة؛ لكنّ الوضع الماديّ الصعب يمنع أن تكون موهبتي الموسيقية هي الأولوية في حياتنا كأسرةٍ محتاجة، ورغم ذلك؛ فالعود لا يفارقني، وأملي بأنني سأحقّق حلمي بأن أكون من أشهر عازفي العود في العالم العربيّ؛ حتماً سيتحقق".

والد "محمد" يؤكد أنّ ثمّة طاقةً غريبةً يمنحها العزف لابنه؛ حيث يتبدّل به الحال إلى أكثر سعادةً وصفاء ذهنٍ؛ حتى أنه يعزف قبل الذهاب للدراسة في غالب الأحيان. مشيراً إلى أنه كان يحتال على أطفاله في البدء بالعزف ليلتفّوا حوله؛ حينما يبدأ قصفٌ متفرقٌ من قبل طائرات الاحتلال الإسرائيلي لبعض المناطق في غزة، في محاولةٍ منه لتهدئة روعهم وتحسين مزاجهم.

أما "هديل" وتوأمُها "حسن" فيكَمّلان بعضهما البعض في الموهبة الفنيّة؛ فهي تغنّي وهو يعزف "الأورج" ويستمتعان بإحداث "الضَجيج الجميل في البيت" - على حدّ تعبيرهم-.

وقد وفّرا على والدهما تكاليف التدريب والمواصلات من خلال التعلّم "أون لاين"؛ وفهم وزن المقطوعة الإيقاعي والنوتات والمقامات الموسيقية المستخدمة في الأغنية.

Image

 

يعزفون الصبر والمرح..!

"عرب محمد" مديرة "مؤسسة السنونو للثقافة والتراث والفنون" والتي تستقبل المواهب من عمر (6-50) عاماً أوضحت أنّ: "الهدف من التدريبات المختلفة التي تقدمها المؤسسة هو العمل على رعاية الحالة الثقافية الفلسطينية، وتفعيل مشاركة المرأة، ورعاية الطفولة، ونشر الموسيقى؛ لما لها من أثرٍ علاجيٍّ في التخفيف من الضغوطات التي يتعرّض لها الأطفال في غزة، وتحفيزهم على طلب العلم وتحسين مستواهم دوماً" لافتةً إلى أنّ: "معظم طلبة المؤسسة من المتفوّقين دراسياً".

ووصل عدد الطلبة المسجّلين في العام الجاري (2017) لدى "مؤسسة السنونو" إلى (640) طالباً وطالبةً، وهو تقريباً ضِعف ما كان عليه في العام (2012) على الرغم من الأوضاع الاقتصاديّة الصعبة، مع زيادةٍ واضحةٍ في عدد الإناث.

بدورها أكدت "عرب محمد" أنّ "الكورال" مجانيّ في المؤسسة، مع إمكانيّة التكفّل بدفعِ مواصلاتٍ لمن لديهم الموهبة الحقيقيّة والجديّة والالتزام بالمواعيد كشروطٍ أساسية".

"بلال صالح" (17عاماً) كورال وعازف عود منذ 6 سنوات في "مؤسسة السنونو" قال: "معدّلي الدراسيّ 98%.. علمتنّي الموسيقى الهدوء والسلام الداخليّ.. ولا يوجد في داخلي نيةٌ للكره أو الإيذاء، والموسيقى متنفّسي الوحيد لتفريغ الطاقة السلبية".

أما "سماح سالم" (16) عاماً فتاة كورال منذ 4 سنوات في نفس المؤسسة فقالت: "أثّر الكورال إيجابياً على تحصيلي الدراسيّ وعلى نفسيتي وطّور شخصيتي"، مشيرةً إلى أنّ رسالتهم "توصيل رسالة السلام من خلال الموسيقى والكورال".

Image

 

طبّ الموسيقى..!

"إنشراح زقوت" أخصائيةٌ نفسيةٌ أكدت على "أهمية نشر ثقافة العلاج بالموسيقى لأطفال غزة؛ لا سيما في ظلّ الضغوط النفسيّة المتواصلة التي يتعرّضون لها، وتعرّض القطاع لثلاثة حروبٍ داميةٍ متواليةٍ في غضون أقلّ من ستّ سنوات" مشيرةً إلى "أننا أصبحنا نتوجه للعلاج بالموسيقى للأطفال بشكل أكبر حيث وجدنا أنها أكثر جدوى من العلاج بالطبّ التقليديّ في الكثير من الحالات؛ فهي تساعد في تحسين حالتهم الصحيّة سواءً النفسيّة أو الحركية أو المعرفية، وتحسين مزاجهم ونوعية حياتهم بشكلٍ عام".

ونوّهت: "عندما ندعو الأطفال في جلسات التفريغ النفسيّ للغناء والعزف؛ نشعر بمدى الانشراح الذي يصيب أرواحهم نتيجة حريّة الارتجال في الغناء والرقص".

ويعاني 2 مليون فلسطيني يعيشون في القطاع من أزمات اقتصادية ونفسية وإنسانية خانقة، ويشكل الأطفال منهم مانسبته 60%، أكثر من نصفهم يعانون أمراضاً نفسية متعددة مثل الخوف الشديد، والاكتئاب، والإحباط، وأعراض الصدمة النفسية والعصبية جراء شن الاحتلال الإسرائيلي هجوماً بين الحين والآخر على القطاع.

المرة الأولى

يُذكرُ أنّه وحسب المؤرّخ الفلسطيني "سليم المبيض" فإنّ "الموسيقى دخلت قطاع غزة للمرة الأولى عام 1948م من خلال فرقة الفدعوس المصرية؛ والتي جاءت تحمل الآلات الموسيقية النحاسية وتعزف في جنازة بعض الشهداء، وبعد عام 1948؛ بدأت بعض الفرق الموسيقية تأتي لغزة في أعياد المولد النبويّ وبعض المناسبات الدينية".

وأضاف "المبيض": "في أوائل الستينات؛ كانت المرة الأولى التي يأتي فيها مُدرّس موسيقى مصريّ إلى غزة، حيث بدأ بتدريس 40 طفلاً الموسيقى في مدرسة يافا بغزة، وبعد نكسة عام 1967م واحتلال إسرائيل لقطاع غزة؛ انطفأت الحالة الموسيقية في غزة؛ لتعود للانتعاش من جديد مع قدوم "السلطة الوطنية الفلسطينية" بقيادة الرئيس الراحل "ياسر عرفات" عام 1994، ولا زالت في ازدهارٍ حتى يومنا هذا".

المصدر : سمر الدريملي