أحاط أحفاد الحاجة أم خالد بها برفقة أطفال الحارة على حرارة أشد من نار فرن الطابون، ينتظرون ما ستعده من خبز ومأكولات شعبية ليتناولوها ساخنة ويتلذذوا بمذاقها ناضجة وطيبة.

وفي زاوية من أرضٍ واسعة تلخص البساطة في بناء فرن من الطين الممزوجة بالتبن والمصنوع بحجم صغير، تلتف جارات الحاجة أم خالد حولها، إحداهن لتساعدها في إشعال الفرن، وثانية تحادثها وتناولها بعض الأشياء التي تحتاجها، وثالثة تنهي عجينها مسرعة لتبدأ الخَبز.

يتكرر هذا المشهد بشكل شبه يومي بسبب شح غاز الطهي والانقطاع المتكرر للتيار الكهربائي، إلا أنه لا يخلو من المتعة والتسلية كونه يشكل تراثًا فلسطينيًا، ويساعد على تعزيز العلاقات الاجتماعية بين الجيران.

ورافقت كاميرا الوطنية الحاجة لتبدأ أجوائها أمام مكان إشعال النار برفقة زوجها الذي كان يناولها مرة إحدى القطع الخشبية التي يُوقد ويُحمى بها الفرن، ومرة أخرى يناولها قطع من الكرتون الذي يجلبه من إحدى الدكاكين المجاورة للمساهمة في تقليل من استخدام الخشب الذي قلما يتواجد لديهم.

وترتب الحاجة أم خالد البالغة من العمر 63 عامًا جلستها وتضع أول أرغفتها داخل الفرن على المنصة الاسمنتية المصنوعة خصيصاً لأفران الطينة، وتعلو النيران لتصل لفوهة الفرن ويبدأ الخبز بالانتفاخ ويأخذ لونًا يميل للاحمرار، فتسارع لسحبه ناضجًا وساخنًا.

وبنفس العملية تنتهي الحجة، وتمسك بيدها قطعة من القماش لتنظف الأرغفة من رماد الأخشاب الذي يتطاير على الخبز الشاحب قليلًا تحسبًا من وجود أي شيء آخر قد علق بالأرغفة، ولزيادة في الاطمئنان والنظافة.

تعلو النيران لتصل وجهها ويتصبب عرقها ويكتوي وجهها بالنيران ليميل للحمرة، لكنها تقول وبالعامية "فرن الطينة فش بعدو، شو بدنا نعمل قلة غاز وانقطاع الكهرباء وصلنا لنرجع لهذا الحال يا على الصاج يا على الطينية، ولنبتعد عن غلبة الطناجر والكهرباء رجعنا للطين ولإحياء التراث".

ويعاني قطاع غزة منذ سنوات طويلة من نقص في كميات الطاقة ما أدى لوضع جدول وصل وقطع للتيار الكهربائي، إضافة لأزمات متكررة بنقص المحروقات وغاز الطهي.

طعم العسل

وتنتقل الحاجة الستينية لوضع مناقيش الزعتر داخل الفرن، وتفوح رائحتها عندما يختلط الزيت بالزعتر في المكان ليتسابق أحفادها ويصطفون حولها لأخذ أول الأرغفة، كما تتسابق جاراتها للخبيز من خلفها على الفرن.

 وتقول أم خالد لـ الوطنية: أنا أخبز طيلة عمري ومنذ الصغر على الفرن، فمأكولاته لها مذاق خاص برغم التعب، يختلف عن مذاق أطعمة الآلات الكهربائية لدرجة أن من يعتاد على تناوله لا يستطيع أن يعتاد بسهولة على الأكلات الحديثة، حيث وصفت مأكولاته بطعم "العسل " الذي ينسيها التعب.

بينما تقول الحاجة أم فؤاد قنديل "إن مثل هذه الأفران تستخدم لعمل كل شيء من المأكولات كصينية البطاطا والسمك والباذنجان والحلويات كالبرازق والكعك"، لتفاجئها إحدى جاراتها وهي حاملة بيدها إحدى قوالب الكيك التي أعدتها جاهزة للخبز.

وتوجد مثل هذه الأفران البسيطة بكثرة وسط الأحياء الشعبية، وبصورة موسوعة ترسم ملامح تراثية في مختلف أنحاء القطاع لتبقى تراثًا حاضرًا لا يغيب يتناقل بين الأجيال.

المصدر : صابرين الحرازين – الوطنية