لم يقتصر "الفيروس المستجد" الذي ظهر بغمضة عين في الساحة العالمية، المعروف دولياً باسم "كورونا"، وطبياً باسم "كوفيد 19"، على قتل آلاف البشر وإصابة عشرات الآلاف، وبلوغه إلى الدول العربية التي تشتكي أصلاً من أزماتٍ سياسية واقتصادية خانقةٍ مُنذ سنوات.

هذا التوعك الذي لم يستطع أي طبيب ماهر حتى هذه اللحظة من إيجاد ترياق مناسب له، نجح فيما عجز عنه الاحتلال الإسرائيلي بخنق عنق الغزيين المحاصرين منذ ما يقارب ١٤ عاماً وما خلفه من أثار اقتصادية عاصفة.

منذ أن أعلن رسميا عن وصول "كورونا" لفلسطين، الخميس قبل الماضي، بدأت الحياة تتحول تدريجياً إلى "كابوس" يطارد أحلام سائقي غزة وأصحاب المحلات التجارية والبسطات وغيرهم ممن أضحت بهم الحياة ما لا طاقة لهم بها.

تأثيرات سلبية على الحياة الاقتصادية لا تزال في مرحلتها الأولى، حيث ألقى هذا السقم الشرس بظلاله عليها، علماً أنه طرق الأبواب ودخل المنازل بدون استئذان من أصحابها.

بحكم السنين، ذاق القطاع ويلات ارتفاع البطالة والفقر بين صفوف المواطنين وتراجع مستويات الدخل اليومي لدى الفرد الواحد لـ (2 دولار) الذي يعد الأسوأ كونياً، وقفزت نسبة الفقر حاجز الـ 85% والبطالة تجاوزت الـ 70%، بينما 350 ألف عاطل عن العمل بشكلٍ دائم، وفق ما كشفته اللجنة الشعبية لمواجهة الحصار.

في موقف الشجاعية تصطف السيارات بانتظار الركاب القلة لتقلهم إلى أماكن توجههم مقابل أجر مادي لا يكاد يذكر ولا يكفي ثمن سعر لتر البنزين المرتفع أو أسطوانات الغاز التي تعمل بها العديد من السيارات.

على بعد أمتار من هذا الموقف، توجهت "الوطنية" نحو عدد من السائقين الذين قست عليهم الحياة، فأينما تولي وجهك تجد معظمهم جالسين على مقاعدهم أمام مقودهم ومركباتهم فارغة.

اقتربنا منهم، فأبدى ٥ منهم موافقته للحديث ولكن في النهاية لم يتحدث لنا إلا ثلاثة عن أوضعاهم بعد قدوم هذا السقم وتحول الشوارع والطرقات والمراكز الحيوية لأماكن شبه فارغه، عقب قرار إعلان حالة الطوارئ في الوطن أجمع من قبل الرئيس عباس.

كيف حالكم؟، سؤال وجه لهم ليردوا: حالنا يرثى عليه، لكن لماذا؟ فأجابوا بنفس اللحظة حصار وانقسام و"كورونا إجانا ليزيد الطين بله".

بالالتفات للسائق محمد أبو عمر، الذي قال إن الاوضاع الاقتصادية كانت سيئة قبل "كورونا" ولكن بعد مجيئه بلمح البصر تحولت الحياة وازدادت سوءاً وتدهوراً، مضيفاً: الطرق فارغة ومصدر رزقنا الوحيد بدأ بالانحدار جراء هذا الوباء الذي عمل على شلل الحياة بشكل كامل.

وتابع أبو عمر خلال حديثه لـ "الوطنية": "كنت أخرج منذ الصباح الباكر لمناطق انطلاق طلاب المدارس والجامعات والعيادات باعتبارها أكثر الأماكن حيوية ولكن بعد قدومه أفرغت الشوارع وأخلي سبيلها".

ويجني أبو عمر قبل الوباء مبلغ مالي جيد نوعا ما، يعيل من خلاله أسرته ولكن هذا الفيروس قضى على ما تبقى من حياة بغزة التي تعاني قلة في الدخل وارتفاعٍ في الفقر والبطالة الفاحشة.

أما السائق الثاني محمد خلف الذي لا يختلف حاله عن سابقه، أكد أن الحركة التجارية في شوارع غزة بدأت بالنزول لأسفل القاع.

وقال خلف خلال حديثه السريع مع "الوطنية" إن حركة الأفراد على الطرقات انعدمت بشكلٍ كبير جداً، متابعاً: "الحركة ماتت بعد قدوم الكورونا وتوقف المدارس والجامعات".

ونوه إلى أنه في الماضي كان السائق يعمل بمبلغ 100 شيكل طول فترة عمله الممتدة من الساعة 6:00 صباحاً حتى نفس الساعة ليلاً وربما تزداد لتصل للساعة 12 مساءًا، مضيفاً "المبلغ المذكور بعد تقسيمه لصاحب السيارة والبنزين والخرابات بطلع للواحد بعد كل هالتعب 10 شيكل وفي بعض الأحيان والله ما بنحصل هالمبلغ الزهيد".

وأردف: "كنا نوصل طلاب مدارس وطلاب جامعات واليوم فش، فقبل هذا الوباء كانت الحركة جيدة نوعاً ما، ولكنه جاء فدمر كل شيء".

السائق الثالث رفض الكشف عن هويته لأسباب خاصة به لم يذكرها، أشار إلى أن الأوضاع فعلاً سيئة، في حين لم يكن الحال هكذا قبل عدة أيام قاصداً قبل إعلان حالة الطوارئ وإغلاق المؤسسات التعليمية والأكاديمية ووصول الوباء.

وأستطرد السائق حديثه على عجلةٍ قائلاً: "قد ما فينا مكفينا لما ربنا يحل هالقصة.. بحكولك أنو بعد الأسبوع حيجددوا كمان أسبوع.. والواحد كل همه يطلع أكل وشرب ولادوا على القليلة المدارس والكليات والجامعات كانت مدبرة حالنا نوعاً ما".

وتساءل: "يعني قبل ما يصلنا الكورونا صارت الحركة السكانية معدومة.. طيب كيف لو عنجد أعلنوا عن حالات وأكدوا إنو وصلنا كيف حيصير شكل هذه الحياة".

عمل البسطات مرتبط بالحركة السكانية النشطة، لكن مع قدوم الوباء للأراضي الفلسطينية انخفض النشاط الإنساني في الأسواق خصوصاً في سوق الزاوية باعتباره من الأسواق الأكثر شعبية إلى جانب امتلائه بجميع الأصناف والمواد الغذائية التي تحتاجها الأسرة.

بدخولك لهذا السوق تجد البضائع والخضراوات بكل مكان كأنك بسوق عكاظ، لكن الاختلاف هنا في غزة يطفوا عندما تبدأ بالنظر، الحركة انخفضت بشكلٍ ملحوظ عقب وباء شدد الحياة على سكانها.

طبيعياً صار المشهد، فالقطاع الذي يعاني أصلاً من بطالة وفقر، جاء "كورونا" ليزيد الكوارث المحملة على ظهر سكانها، تغيرت حياتهم بين ليلة وضحاها.

في هذا المكان، يجلس الطفل الذي لا يتجاوز عمره الـ 13، وأمامه بسطة صغيرة تحتوي على قلة من ضمات البقدونس، لكنه صوب نظره نحو الحركة فوجدها شبه معدومة ومع انخفاض مستويات الدخل أهلكت نهائياً.

يقول الطفل لـ "الوطنية" بعدما طلب عدم ذكر اسمه، إنه على الرغم من رخص ثمن ضمة البقدونس (1شيقل على أقل تقدير) إلا أنني لم أبع سوى 10 ضمات منذ ساعات الصباح الباكر.

وأضاف كما نقلناه بالحرف الواحد: "الناس صارت تمشي بالشارع تبع السوق وهي خايفة من كل اشي.. بطلعوا في الواحد بفكروا مصاب بالكورونا.. بيجي بفحصوا غراضنا قبل ما بدهم يشتروها عشر مرات.. تقول الواحد سارقها".

أما أبو محمد صاحب بقالة صغيرة بالمكان ذاته، الذي تحدث بصدق بأنه لم يبع أي بضائع خلال هذا الأسبوع إلا بشكلٍ محصور، نتيجة كساد الأسواق من ناحية وتعطيل المدارس والجامعات من ناحية أخرى.

وأوضح أبو محمد أن استمرار الوضع على ما هو عليه في الوقت الراهن ينذر بكارثة تجارية حقيقة بالرغم من تفهم كل الإجراءات المتبعة لحماية أرواح المواطنين لكن نتائجها قاسية على الجميع.

ويخوض العالم "حرب فيروسية" طاحنة طاغية على الجميع نجحت في ثني أيادي دول اقتصادية كبرى، بالوقت الذي يقول فيه اختصاصيون اقتصاديون بأن الاقتصاد العالمي خسر منذ بداية انتشار الفيروس إلى الآن نحو أربعة ترليون دولار بفعل أزمة "كورونا"، ما يعني أن الكل سيقع في أزمة بالمرحلة المقبلة.

فلم يبق لغزة شيء إلا وتذوقت مرارته، حصار إسرائيلي جارف، وانقسام فلسطيني غليظ شوه مفاصل الحياة من بطالة فاجرة وفقر مدقع، والحياة أصبحت معدومة، وكورونا، وعلى رغم من كل ذلك لا تزال ألسنة المواطنين تردد:" على هذه الأرض ما يستحق الحياة".

 

المصدر : الوطنية - وجيه رشيد