كل الإفتراضات أكدت أن ولادة «التجمع الديمقراطي الفلسطيني» شكلت خطوة سياسية شديدة الأهمية في الحالة الوطنية. ليس لكون أطرافه الخمسة أصحاب تجربة «التحالف الديمقراطي» قرروا تجديد التجربة، بل لأنه هذه المرة، يستند إلى قوى وفعاليات ومؤسسات مجتمعية من المستقلين والناشطين اليساريين والديمقراطيين والوطنيين، الذين يرغبون بالتعاون مع القوى الديمقراطية واليسارية لكسر حدة الإستقطاب الثنائي في الحالة الفلسطينية، بعد أن أفسد هذا الإستقطاب الحياة السياسية، وأضعف الوضع الفلسطيني، وعرضه لكل أشكال التدخل العربي والإقليمي والدولي. ولعل تصريحات نتنياهو الأخيرة حول خططه لإدامة الإنقسام، دليل ساطع لا يمكن لأحد أن ينكر خطورته. كما لا يمكن لأحد أن ينكر أن المستقلين، بعناوينهم المختلفة، هيئات وأفراداً، أعطوا للتجمع حاجة وطنية ملحة، وليس مجرد فكرة خطرت لهذا الفصيل أوذاك، وأن التجمع أبعد من كونه إئتلافاً إنتخابياً، بل هو مشروع لتعزيز التيار الديمقراطي في الحالة الوطنية، وبلورة عناصره، وآليات عمله، وتوسيع قاعدته الجماهيرية، وجعله قطباً ثالثاً، لا يطمح لا للحلول محل فتح، ولا للحلول محل حماس، بل ليملأ فراغاً سياسياً، حاولت الفصائل اليسارية والديمقراطية، أن تملأه، نجحت في ميدان، وفشلت في ميدان آخر، وبالتالي ليقدم البديل السياسي البرنامجي الوطني والإجتماعي، تحت شعار مزدوج واضح المعالم؛ «ضد صفقة ترامب (صفقة القرن) وإنهاء الإنقسام» دون أن يراود أحداً، فكرة أن هاتين المهمتين قابلتان للتحقق بسهولة. فالمعركة الأولى هي ضد الولايات المتحدة، وإسرائيل وأطراف عربية وإقليمية متواطئة. وهي تحتاج لتحشيد القوى وتوحيد الصفوف. وهذا لا يكون إلا بإنهاء الإنقسام. ترابط واضح بين الشعارين. وإدراك واقعي وحقيقي لتعقيدات الأوضاع، خاصة وأن الإنقسام ليس بين فصيلين، بل بين سلطتين، كل منهما تحاول أن تصل إلى الإتفاق الذي يضمن لها الحصة الأكبر في السلطة الفلسطينية وأن تتنازل عن الحد الأدنى من سلطاتها.

ذهبت الأطراف كلها، فصائل ومستقلين، إلى «التجمع» وهي تدرك الصعوبات وإختلاف المفاهيم وأننا لسنا أمام مشروع بناء الحزب الواحد، فالخلافات السياسية واضحة، ولا يمكن التغطية عليها.

محطة الإختبار الأولى كانت تشكيل حكومة السلطة الفلسطينية برئاسة الدكتور أشتية.

برنامج التجمع يدعو إلى حكومة وحدة وطنية، تضم الكل الفلسطيني، لفترة إنتقالية، تشرف على إنتخابات شاملة رئاسية، وتشريعية للمجلسين التشريعي والوطني، بما يقود إلى إنهاء الإنقسام، وتعزيز المكانة السياسية والتمثيلية لمنظمة التحرير الفلسطينية، حين تنخرط في مؤسساتها القوى الفلسطينية كافة، والصف العريض من فعاليات التجمع المدني، من مؤسسات وقوى وشخصيات مستقلة.

طرفان من أطراف التجمع قررا الإشتراك بالحكومة التي سميت فصائلية، واستبعدت منها حركة حماس والجهاد، في خطوة قرأتها غالبية التجمع أنها لم تغادر سياسة الإنقسام، بل وتقود إلى تعميقه لأنها شكلت الخطوة الثانية في إبعاد حماس من المؤسسة الجامعة.

الأولى عندما صدر مرسوم رئاسي (!) بحل المجلس التشريعي،  والثانية عندما أقيلت حكومة التوافق الوطني التي لحماس فيها شراكة وإن كانت بحدود وزيرين لا أكثر.

وبالتالي تحولت قضية المشاركة في الحكومة من عدمها، إلى قضية شائكة في التجمع. كيف يدعو إلى إنهاء الإنقسام، ثم يذهب بعض أطرافه إلى مشاركة أحد طرفي الإنقسام في مشروعه السلطوي. حتى أن أحد الذين دافع عن مشاركة فصيله في الحكومة تبنى موقف فتح، حين أنكر أن  تكون فتح طرفاً في الإنقسام، وأن الإنقسام مسؤولية حماس وحدها. وقال آخرون شاركوا في الحكومة، أنّ لا تعارض بين المشاركة في التجمع والمشاركة في الحكومة، وأن القرار الحزبي قرار مستقل لا يحق للتجمع أن يفرض رأيه على أي من أعضائه، فهو ليس إتحاد أحزاب بل هو إئتلاف بين قوى لكل منها رأيه. حتى أن الخلافات داخل التجمع خرجت إلى العلن في أشكال ومظاهر مختلفة: بعضها في بيانات ذهبت إلى حد التطاول على التجمع، وتوصيفه بأوصاف أوحت بأنها نهاية المطاف. وبعضها الآخر في صراعات وخلافات وإستقالات داخل الأطراف التي قررت المشاركة في الحكومة، ما يدل على صحة موقف غالبية أعضاء التجمع.

الحوار داخل قيادة التجمع كان ساخناً، وأكثره سخونة كان لدى الأطراف المستقلة. التي رأت في إنتهاك برنامجه السياسي خطوة خطيرة، دعت في ضوئها إلى إعتبار المشاركين في الحكومة خارج التجمع، والسير بمن تبقى في الطريق المرسوم. ومازالت الحوارات الساخنة تدور في أروقة التجمع وبين أطرافه، لكن في ظل مسألة شديدة الخطورة، وهي أن التجمع، مازال حتى الآن، ومنذ أن تم الإعلان عنه، في حالة جمود، ولم ينزل إلى الشارع ليقدم نفسه إلى الرأي العام. وهذا أمر  يجب بالضرورة أن يحسم أمره.

التجمع ليس منتدباً ثقافياً يجتمع أطرافه وأعضاؤه للتداول والتشاور وإبداء الرأي. التجمع مشروع سياسي ديمقراطي وطني، أهميته في أن ينزل إلى الشارع.

لكن ما يعطل التجمع، حتى الآن، هو إصرار بعض أطرافه على مبدأ «التوافق» في إتخاذ القرارات. وفي إعتقاد الكثيرين أن هذا التوافق معناه تنحية القضايا المختلف عليها جانباً، ومعناه أيضاً أن من حق أي طرف أن يمارس «حق الفيتو» (الإعتراض) على قرار ما، وبالتالي تعطيل عملية التوافق، وهذا معناه عملياً إبقاء التجمع في حالة جمود. لأن ثمة العديد من القضايا ليست موضع إجماع وتوافق. منها مثلاً مسألة الحكومة وصلاحياتها وبرنامجها وأداءها، بما في ذلك إحالة اللجنة التنفيذية إليها تطبيق قرارات المجلس الوطني والمركزي. ومنها مثلاً المواقف من طرفي الإنقسام، هل يتحملان المسؤولية معاً، أم يتحمله طرف واحد. ومنها كذلك مبدأ المشاركة في الحكومة الحالية ذات اللون الفتحاوي الواحد، هل تساعد على إنهاء الإنقسام، أم أنها خطوة في تعميقه. ومنها قضايا العمال، ورواتب الموظفين، والحصار على القطاع، والموقف من صفقة ترامب، وتعطيل قرارات المجلس الوطني والمركزي. وقضايا أخرى، وضعها التجمع على جدول أعماله.

هل المطلوب أن يموت التجمع سريرياً، بحيث يدفع ثمن مشاركة طرفيه منه في حكومة السلطة؟

أم المطلوب آلية جديدة لإخراج التجمع من مأزقه؟

نعتقد أن السؤال الثاني هو الذي يحمل الجواب. والجواب يكون بإزالة العقبة. والعقبة هنا هي آلية إتخاذ القرار القائمة على مبدأ التوافق، أي مبدأ حق الفيتو لأي من أعضائه، وبحيث يمكن لأي من أطرافه، ولغاية في نفس يعقوب أن يمارس الفيتو كل مرة. فيبقى التجمع في حالة موت سريري.

الحل، كما نعتقد هو في الإنتقال من آلية القرار بالتوافق، إلى آلية القرار بالأكثرية المطلقة (النصف +1) أو أكثرية  الثلثين أو أية أكثرية نسبية. عندها يكون للتجمع رأيه، ويحق لمن يعارض أن يعلن موقفه علناً أمام الجميع، ما يعيد التأكيد أن التجمع ليس «إتحاد أحزاب»، كما قيل، لكنه في الوقت نفسه تجمع ديمقراطي وجد ليعيش وليس ليبقى في حالة موت سريري، وبحيث تصبح تجارب القوى اليسارية والديمقراطية، محط سخرية من الجميع.