السعودية حتى اللحظة لا تملك روايةً مضادة للرواية العالمية المتداولة عن اختفاء جمال خاشقجي، وكبدايةٍ طريفة تستبطن السرّ المعلن عن أسباب عدم وجود الرواية، أن يكون ضابط "السي آي إيه" الذي يدير السياسة الملكية في إجازةٍ مرضية مثلاً أو إجازة سنوية، والأكثر طرافةً ما نقلته وكالة "رويترز" عن كون الملك لم يكن يدري بتداعيات ما حدث، وأنّه كان يعيش في فقاعةٍ اصطناعية ولا يدري من افعال ابنه سوى ما يعرضه الإعلام السعودي، فملك (أكبر وأغنى وأقوى وأعظم دولة عربية وإسلامية- حسب فهم الإعلام السعودي) يتابع ويدير الحكم على ضوء نشرة أخبار الإخبارية السعودية، فـ"رويترز" لا تعدم الطرافات أيضاً ولا تجد حرجاً من نقلها، حتى السيد نصرالله شارك بإلقاء الطرافات حين دعا حكام آل سعود لوقف العدوان على اليمن، رغم أنّه في الجملة التي سبقت الدعوة كان درامياً جداً، حين اعتبر أنّ آل سعود لا يستطيعون مجرد التفكير بتصحيح بوصلة العداء بإنهاء حالة العداء مع إيران وحزب الله وحماس، رغم أنّها دعوة أخلاقية سياسية ولكنها تحتاج حكاماً غير آل سعود لتقدير سموها.

كان السيد نصرالله كعادته متمتعاً بخلق الفرسان والنبلاء، الذين يحرصون على شرف الخصومة، فأشار إلى أنّ حزب الله لم يشارك سياسياً أو إعلامياً في حالة التصويب على السعودية في قضية اختفاء خاشقجي، وهذا الاستنكاف الأخلاقي لا شك يحمل بعداً سياسياً أيضاً، فالسيد نصرالله حتماً يريبه السلوك الأمريكي حيث أتى، لأنّه يدرك أنّ تلك الإمبراطورية سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وإعلامياً وأمنياً هي مجموعة من النظم اللاأخلاقية، وبالتالي فهي لا تتحرك من دوافع أخلاقية، لذلك فالسيد لا يريد أن يكون ولو بشكلٍ غير مباشر طرفاً في منظومةٍ لا أخلاقية ولو في قضيةٍ ظاهرها الأخلاق، كما يدرك من ناحيةٍ ثانيةٍ أيضاً أنّ الحكم السعودي مجرد تابعٍ للإدارة الأمريكية، ومهما كانت التداعيات أو العقوبات التي ستوقعها على المملكة، فستتقبلها بصدرٍ أكثر رحابةً من صدر السيد نصرالله، وعليه فالسيد يعرف كذلك أنّ قرار الحرب على اليمن هو قرارٌ أمريكي، لذلك فالأرجح أن تبقى دعوةً في الإطار الأخلاقي دون أيّ مفاعيلٍ سياسية واقعية.

وبما أنّ الريبة من المواقف والسلوكيات الأمريكية هي حالة عامة، فقد لا نذهب في التحليل بعيداً حين نقول أنّ الاستهداف الأمريكي ناجمٌ عن عقابٍ شديد لابن سلمان كونه فشل في عدة ملفاتٍ كلفه بها ضابط "السي آي إيه" سالف الذكر، فشلٌ في الضغط لتمرير ما يعرف بصفقة القرن، أو حتى مجرد الإعلان عن علاقات طبيعية مع "إسرائيل"، وفشل في ملف اليمن وملف قطر وملف العراق وملف لبنان، وكل هذا الفشل المتراكم يصبح بالنتيجة عبئاً على المصالح الأمريكية في المنطقة، والأسوأ من الفشل ذاته هو فقدان الأمل بأنّ ابن سلمان الذي اعتاد الفشل، قادرٌ على اجتراح نجاحٍ في أي تكليف جديد أو مستجد، وهذا ما ألمح إليه السيناتور الجمهوري المقرب من ترامب ليندسي جراهام، حين قال "لو كان محمد بن نايف ولياً للعهد لما حدث كل هذا"، فقد استطاعت الولايات المتحدة استغلال حماقة وطيش ورعونة بن سلمان للحدود القصوى، ولكن يبدو أنّها استنزفته باكراً، وقد حان الوقت لإعادة طلاء سياسة آل سعود بوجهٍ أكثر تعقلاً، وهذا على مستوى المضمون لن يغير في السياسة السعودية لصالح المنطقة وشعوبها، ولكنه سيغير شكل التنفيذ من التنفيذ الخشن إلى التنفيذ الناعم. 

وأخيراً تحدث السيد نصرالله بما يشبه التحذير عن واقع غزة في حال انفجاره، وهذا التحذير يأتي في ظرفٍ تتعرض فيه السعودية لأكبر ضغطٍ في تاريخها، حيث لا يساورني شكٌ في أنّ ابن سلمان طلب من "إسرائيل" افتعال عدوانٍ على غزة لتغيير وجهة الكاميرا عن جريمته، وتخفيف الضغط السياسي والإعلامي، ولكن كما قال السيد نصرالله سابقاً فـ"دولة" العدو لا تعمل عند أحد، بل تفعل ما يناسب مصالحها وأطماعها، فهل يفتعل بن سلمان حدثاً نافراً ولكن باتجاه عكسي، حيث يعلن عن زيارةٍ إلى القدس مثلاً مما يجعله في حماية اللوبي الصهيوني، فهو يمتلك من الرعونة والشغف بالعرش ما يجعله قادراً على ممارسة أيّ رذيلةٍ على قارعة الطريق، ولكن بعيداً عن مصير بن سلمان الذي أصبح على المحك فعلاً، فإنّ تحذير السيد نصرالله يحتاج لأكثر من توقف، فقد اعتبر أنّ ما يحدث في غزة له تداعيات كبيرة وخطيرة على مستوى المنطقة، وهذه عبارة رغم أنّها شديدة الوضوح إلّا أنّها مكتنزة بالغموض المثير للأسئلة، فهل هذا يعني أنّه في حال اشتعال جبهة غزة، ستشتعل جبهات أخرى، وما هي تلك الجبهات، وهل ستُفتح الجبهات مباشرة، وإن كان الجواب لا، فما هي اللحظة التي تستوجب فتحها، وما مدى تلك الخطورة، هل هي حرب شاملة أم مجرد جولة قاسية ومن يضمن ذلك، كلها أسئلة بلا إجابات، ولكن الجملة التي سبقت هذا التحذير في كلام السيد، حين قال عن أهل غزة "قد يستطيعون فرض خياراتهم وكسر الحصار وفرض شروطهم على العالم"، بما يعني أنّ كل هذا الغموض الذي يستبطن جحيماً لا أحد يعرف مداه، يتبخر بمجرد رفع الحصار، فإمّا رفع الحصار وإما ما تعمّد السيد أن يجعله جحيماً غامضاً.