التقسيم المكاني والزماني في العرف السياسي والإعلامي هو ما تقوم به إسرائيل من تقسيم للمسجد الأقصى والحرم الإبراهيمي، فتخصص أوقاتا وأماكن للعبادة للمستوطنين اليهود في داخل المسجدين تحت حراب الاحتلال.

الجديد الذي لم ينتبه إليه الكثيرون من الساسة والقادة هو ما تمارسه إسرائيل من تقسيم مكاني وزماني للشعب الفلسطيني، وأجزم أن إسرائيل نجحت نجاحاً باهراً في تحقيق هذا الهدف دون أن يلتفت أحد، فما هو التقسيم المكاني والزماني للشعب الفلسطيني الذي تعمل إسرائيل على تكريسه...؟ ولماذا فشلنا في المحافظة على مكتسبات معركة سيف القدس...؟

أولاً- التقسيم المكاني والزماني للشعب الفلسطيني:

في الحلقات التلفزيونية والإذاعية التي أشارك فيها كنت دائم القول: إن إسرائيل نجحت في تقسيم الشعب الفلسطيني إلى خمسة مربعات، هي: (الشتات – داخل الخط الأخضر - القدس – الضفة الفلسطينية – قطاع غزة)، فتتعاطى مع كل مربع ضمن سياسة مختلفة، ونجحت في الفصل النفسي والاجتماعي والسياسي بين المربعات، والنجاح الأكبر كان عند توقيع اتفاق أوسلو عام 1993م دون أن يتطرق لفلسطينيي 1948 م. نجحت عندما قسمت الشعب الفلسطيني مكانياً، حتى في إرهابهم هناك تمايز حسب المنطقة، قطاع غزة ليس كالضفة الغربية، والقدس ليست كفلسطينيي الداخل، بل الآن وصل التقسيم المكاني إلى المحافظات؛ فجنين ليست كنابلس أو بيت لحم، وأخشى ما أخشاه أن يصبح التعاطي مع مخيم بلاطة مختلفًا عن حوارة أو مدينة نابلس.

التقسيم الزماني مرتبط بقدرة الاحتلال على تحديد مواعيد لإرهابه، قبل عام كانت غزة، وسط صمت بقية مكونات شعبنا الفلسطيني ومناطقه، واليوم جنين وسط صمت الجميع، حتى مسيرة سلمية لم نرها في أي بقعة جغرافية، وهذا أكبر تهديد إستراتيجي للاحتلال على الوعي الجمعي الفلسطيني، لأنه يرسخ أن الشعب الفلسطيني مجموعة متناثرة من البشر لا يجمعهم سوى المكان الذي يسكنون فيه.

ثانياً- معركة سيف القدس وعلاقتها بوحدة الشعب الفلسطيني:

من أهم مكتسبات معركة سيف القدس أن الشعب الفلسطيني في كل أماكن وجوده توحد في مواجهة الاحتلال، كما كان قائماً في زمن الانتفاضة الكبرى عام 1987م، تجلى ذلك في مسيرات ومواجهات اللد ويافا والناصرة وغيرها من بلداتنا الفلسطينية داخل الخط الأخضر، والقدس والضفة الغربية، ومسيرات لندن وشيكاغو إلخ...

يبقى السؤال: لماذا لم تستمر الحالة التي رسمتها معركة سيف القدس...؟ الجواب ببساطة لأننا منقسمون على كل شيء، ومبدعون في صناعة الأعداء والخصوم، وبارعون في استعراض عضلاتنا على بعضنا البعض، واستحضار ما هو مؤلم ومظلم في تاريخ شعبنا، حتى بات خطاب الانتصار والقوة مثار استهجان واستياء عند البعض، وهو ما يؤكد أن الهزيمة تتسلل إلى دمائنا، لوقف هذه المهزلة ينبغي توصيف المرض بشكل واضح وبعيداً عن مساحيق التجميل، وأرصدها فيما يأتي:

1.    أقمنا سلطة تحت الاحتلال، فأصبح الاحتلال ولي نعمتنا، وهو المقرر في رفاهيتنا وازدهار اقتصادنا، وأصبح المانح الدولي أسيرًا لتوجهات هذا الاحتلال البغيض.

2.    القيادة الفلسطينية أصبحت جماعة مصالح ترعى بشكل مباشر أو غير مباشر، بقصد أو بغير قصد، مصالح وأمن الاحتلال؛ لأن في ذلك ديمومة مصالحها.

3.    سياسة العصا والجزرة التي يمارسها الاحتلال، فالعصا لمن عصى (تيار المقاومة)  ويمارس ضده الاعتقال أو الاغتيال أو الحرمان، والجزرة لمن يحافظ على الهدوء (التصاريح – المنح – تصاريح كبار مسؤولي الدولة VIP)، وما بينهما حرب نفسية تشارك فيها أطراف مختلفة تدعم الاحتلال، تتمثل في استهداف من ينتمي إلى تيار المقاومة عبر حرمانه من السفر والمنح والمساعدات، ومكافأة التيار الآخر والغريب أن بعض الوزراء يتم اختيارهم من التيار الثاني وسط تأييد وموافقة التيار الأول.

4.    انقسامنا أخذ أكثر من شكل، حتى أصبح التخلص منه أصعب من التخلص من الاحتلال الإسرائيلي، لدينا انقسام جغرافي – سياسي – أيديولوجي – حتى أصبح انقسامنا جزءاً من سياسة المحاور والأحلاف، هناك محور مقاومة له أهدافه المتعلقة بمصالح كل طرف بالمحور، مثلاً إيران تمول فصائل المقاومة من أجل إشغال إسرائيل وابتزاز الولايات المتحدة لإنجاز ملفها النووي. أما الفصائل الأخرى فهي جزء من محور يريد الاستقرار والسلام مع إسرائيل، وتوحيد الجهود لمحاربة المحور الآخر تحت بند الحرب على الإرهاب.

5.    هناك فجوة هائلة بين الشعب وقياداته السياسية، حيث انقسم المجتمع الفلسطيني في اهتماماته إلى ثلاثة اتجاهات: جزء يرغب بالعمل داخل إسرائيل ويعد هذا أقصى أحلامه، وجزء آخر يعيش على فتات المساعدات وحلمه يتلخص في عودة شيك الشؤون أو المنحة القطرية، وجزء يعيش على موائد السلطة ومؤسساتها والفصائل بألوانها المختلفة، حتى أصبح العمل الوطني وظيفة ينتظر من يقوم بها، بغية الرواتب والحوافز المخصصة على حساب التضحية والنموذج القدوة، وأصبح المشروع الوطني كأنه مشروع اقتصادي بنكهة وطنية.

الخلاصة: إن تضحيات شعبنا العظيم على مر التاريخ تستحق منا أن ندق جدار الخزان، وأن يكون للشعب الفلسطيني كلمته، وألا نبقى عبيداً لقوى وفصائل وأسماء، وأن نقول لمن أخطأ إنك أخطأت، وأن ندعم ونضغط من أجل إجراء إصلاحات كبيرة في بنية النظام السياسي الفلسطيني بكل مكوناته، وأهم خطوات الإصلاح:

1.    عقد مؤتمر وطني يهدف لتقييم وتقويم المسار السياسي بكل جوانبه للإجابة عن تساؤل: أين أخطأنا...؟ وأين أصبنا...؟ وعليه تتم صياغة إستراتيجية وطنية متوافق عليها تراعي أخطاء الماضي وتؤسس لمستقبل جديد.

2.     الذهاب نحو انتخابات شاملة في كل المؤسسات السياسية والنقابية والمحلية والطلابية.

ما سبق لا يمكن أن يتم ونحن ننتمي إلى حزب الكنبة، على الجميع التحرك، فالوطن ليس بخير، وخطاب زوال الاحتلال الذي يستند لنبوءات لا أعلم مدى دقتها، ولكني بنظرتي الواقعية أقول إن إسرائيل تتقدم ونحن نتراجع، والسبب ليس إبداع الاحتلال، بل فشل قياداتنا، وارتهان قرارنا غير المستقل للخارج.