المشهد الفلسطيني يغرق أكثر في سريالية تصبح عصية على التفكير والتفسير، هل فقد الفلسطينيون توازنهم الى هذا الحد الذي وقعوا فيه في هذه الحفرة التي لا قاع لها؟ وتستمر الأزمة ويزداد الاختناق ويتباعد الحلم أكثر، ولم يعد الضوء في نهاية النفق، بل إن النفق يزداد حلكة أمام شعب صعد منذ سنوات نحو الشمس جاعلاً من شهدائه سلماً بكل ما يملك من فائض الدم والإرادة، وهو الشعب الذي يهدينا صورة البؤس والجوع وتوق الحياة حين تسرب خبر إدخال إسرائيل للعمال من قطاع غزة.
رغبة بالتخلص من ذلك الواقع يمعن يومياً في إهانة البشر، آباء فقدوا هيبتهم وهم ينتظرون مساعدة ويصطفون في طوابير التسول، فتلك المنطقة الصغيرة بها فائض الدم، ولكن أيضاً فإن فائضاً من الذل غطى على المشهد، فلم يعد يحتمل حصار بشر لهذا الوقت الطويل وكل تلك الحروب، ولم يعد الزمن يحتمل حكماً أورث الناس كل هذا الفقر والعوز. اذ باتت المعادلة أكثر وضوحاً حين ترافقت الصورة مع مفاوضات القاهرة، فإما أن تنفصل غزة وتضرب المشروع الوطني أو تبقى كما هي وتضرب سكان هذه المنطقة في حياتهم وكرامتهم وعائلاتهم وفقرهم ان استمر هذا الوضع، فمن لديه معادلة مختلفة؟ وهذا هو السؤال الذي آن الأوان لحركة حماس أن تجيب عنه بعد التجربة الطويلة والمريرة والإخفاق في رفع الحصار وتوفير حياة كريمة وعدم الإنجاز على مستوى التطلعات الوطنية أيضاً.
وضع الضفة لا يبتعد كثيراً على صعيد الإخفاق الوطني، لكنه أفضل على المستوى الانساني، وهذا يصبح أقل الممكن عندما ينهار كل شيء، فلا قيمة للأوطان عندما يذل أبناؤه، ولا قيمة لحكم أو لسلطة عندما يقف الرجل عارياً أمام أبنائه لا يملك قوت يوم العائلة، فالوطن هو أن تعيش كريماً لا أن يورثك المهانة والضعف، لا أن تنهار عائلتك أمامك، لا أن يصبح الحد الأدنى للحياة البسيطة مجرد حلم لأبنائك وأنت تقف عاجزاً.
كيف هندس الإسرائيلي كل هذا بذكاء؟ كيف تمكن من التلاعب بنا واستخدامنا ضدنا حين حوّلنا إلى حالة احتراق وتآكل داخلي، لا أحد يبرئ حركة حماس من وضع غزة وبؤس غزة، ولا أحد يبرئ أي سياسي مما وصل إليه الحال في كل الوطن. فالقضية التي كلفت كل رأس المال الدامي تبدو كأنها تتبخر، وأصحاب القضية يتحولون الى متسولين أقصى طموح لهم هو العمل لدى إسرائيل، وبحكم الفلسطيني لنفسه، وهي المغامرة التي ذهب إليها بقدميه تحولت إسرائيل من أم المشاكل إلى أم الحلول، كيف ولماذا؟ سؤال كل المشتغلين في حقل السياسة والطبقات العليا في كل القوى والأحزاب.
إسرائيل صنعت للفلسطينيين عدداً من المعادلات المعقدة والغريبة، والتي وقعوا فيها لفائض السذاجة والتي تعادل فائض الدم، فقد صنعت من «حماس» عدواً لـ «فتح»، وصنعت بحصارها لغزة الشعب عدواً لـ «حماس»، وصنعت من «فتح» سلطة وكأنها دولة اعتزلت الثورة، ووضعت الجميع في معادلة الصراع الداخلي ونيران لن تنطفئ، وكلما قاربت على الانطفاء تضيف مزيداً من الوقود على رأس «فتح» و»حماس» والشعب، فجميعهم في محرقة، وتبدو هي كأنها المسيح المخلص لتلك الكتلة البشرية المحترقة أساساً... كان المشهد يكثف التجربة والمسار الذي تكفي نهايته للحكم عليه.
حركة حماس الغارقة في الأيدولوجيا حد السذاجة السياسية والتي دخلت الانتخابات قبل عقد ونصف دون أن تتأمل طبيعة اللحظة آنذاك، ودون أن تدرك تعقيدات المعادلة، وزادت طين بلتها بالسيطرة على غزة، والآن يتضح ومع المفاوضات في القاهرة أن ذلك لم يكن مصادفة بل تمت هندسته باقتدار. اذ كان يكفي نظراً لانعدام كفاءة «حماس» السياسية مجرد اشارة من ماكر ليقنعها بأن تذهب الى المصيدة بكامل إرادتها، مصيدة تصطادها سياسياً وتحولها إلى عبء على شعب، ووجودها يمنع عنه قوت يومه، هكذا وجدت نفسها.
الحوار الذي يدور في القاهرة على التهدئة والتي رافقته الصورة الشهيرة من غزة.. صورة العمال التواقين لفتح إسرائيل الأبواب أمامهم، ولم يكن تسريب خبر العمال مصادفة، بل أرادت اسرائيل الصورة لإضعاف «حماس» في التفاوض وتذكيرها بأن تل أبيب هي صاحبة اللعبة، تملك كل مفاتيح اللعبة وكل الوعود بالحلول الراهنة تاركة لـ «حماس» «وعد الآخرة» وليس أمامها سوى معادلة واحدة وأي خيار من خياراتها هو انتحار.
إسرائيل تريد فصل غزة، وهو الفعل الذي يتخذ له اسماً حركياً هو «التهدئة» والتي تشكل بروفاتها السابقة الوسيلة للوصول الى التهدئة الأكبر. فإسرائيل ليست غبية حتى تستخدم مصطلح الفصل، ولكن في المسألة حتى التهدئة ما يمكن تأمله أمام حركة مثل «حماس»، حيث التهدئة تصبح القاعدة والحرب هي الاستثناء. وهذا ما كان خلال العقد والنصف الماضيين، وهو لا يستوي مع القوى الثورية والشعب تحت الاحتلال، حيث الحرب هي القاعدة والهدنة هي الاستثناء، أما تلك فتكون بين شعوب ودول قد تنشب بينها معارك وحروب لبعض الوقت، وقد تعتاش «حماس» مؤقتاً على هذه المعادلة، لكنها مع الزمن ستفقد دورها الوظيفي والهدف الذي تشكلت من أجله، لقد استُدرجت لهذه المعادلة دون أن تدري، وتأبطت غزة وحولتها الى عبء عليها، فمن الذي أودى بها الى هذه الحفرة؟
ما الحل إذاً؟ يبدو المشهد معقداً وأصعب من تقديم وصفات سريعة، لأن الإسرائيلي يقف حارساً لهذا الوضع بكل ما يملك من جيش وأموال وعلاقات ومراكز دراسات، في حين يقف أمامه فلسطينيون تنعدم لديهم الكفاءة، وباتت أولويتهم الحكم والصراع على السلطة حتى في الدوائر الضيقة، ويعلنون على الملأ ليل نهار أن الانقسام مصلحة إسرائيلية، لكنهم ينفذون منذ عقد ونصف تلك المصلحة بكفاءة عالية، فكيف نفهم هذا...؟؟؟؟