سواء نجحت حكومة التغيير في إسرائيل في الحصول على شرعية انطلاقها من قبل الكنيست، أم لا، فإن ذلك لا يوقف التدهور الذي تعيشه منذ سنوات، ويتصل بنظام الحكم الذي تعصف به أزمة حادة.
نتنياهو كان آخر الزعماء الذين يملكون قدرات استثنائية، ذات أبعاد تاريخية تلخص طبيعة المشروع الصهيوني الذي يتسم بالتزوير، وسرقة الأرض والحقوق، والتضليل والخداع والأنانية، فضلاً عن العنصرية والفوقية والحقد العميق على العرب.
لا توجد شخصية في المستوى السياسي مرشحة لأن تحظى بالقدرات التي يتمتع بها نتنياهو، ورؤساء الوزارات السابقون منذ قيام الدولة العام ١٩٤٨ حتى الآن، فكل ما هو مطروح في السوق يفتقد الى الخبرة، ويفتقد إلى الشعبية، ووضوح المشروع.
نتنياهو يغادر بعد اثني عشر عاماً، متواصلة على رأس الحكومة، حقق من خلالها إنجازات ضخمة لصالح المشروع الصهيوني، لكنه في المقابل زرع بذور انهيار هذا المشروع حين شرع العنصرية، وحين اعتقد أن بإمكانه أن يقضي على الطموحات القومية للشعب الفلسطيني الذي يناهز عدده في هذه الأيام عدد كل يهود العالم، وأقل من نصفهم في إسرائيل.
من العبث الحديث عن عدد الوزراء المتطرفين في هذه الحكومة وعن من ينحدر منهم أو ينتمي للجيش، فلقد لعب الجيش الدور الأساسي الدائم في فرز القيادات السياسية حتى يكاد يخلو موقع رئيس الحكومة من أي شخصية سياسية مدنية.
كلهم «أبطال» تاريخيون يفتخرون بأدوارهم في قتل وتشريد الفلسطينيين وسرقة أراضيهم، وأحلامهم وطموحاتهم، وكلهم ارتكبوا ما يكفي من المجازر وجرائم الحرب ما يكفي لمحاكمة المشروع الصهيوني بكل مركباته ورموزه وقياداته.
الليكود، الحزب الأكبر، والحزب التاريخي الذي يقود معسكراً متماسكاً من اليمين واليمين الحريدي، الذي يحوز على ثلاثين مقعداً في الكنيست يصبح خارج التشكيلة الحكومية، وما كان له أن ينزاح نحو المعارضة، لولا أنانية زعيمه الذي لم يدخر وسعاً، ولم يترك طريقاً لمنع تشكيل حكومة التغيير بسبب أنانيته المفرطة، لكنه لم ينجح.
الأميركيون عيونهم مفتوحة على ما يفعله وقد يفعله نتنياهو قبل انعقاد جلسة الكنيست للتصويت على منح الثقة لحكومة التغيير، وإلا لكان أدخل البلاد في مغامرات خطيرة، حتى يمنع إمكانية إقصائه عن رئاسة الحكومة، لكنه وإن كان قد سلم بالأمر الواقع، فإنه يعلن أنه لن يستسلم وأنه سيواصل العمل بكل ما أوتي من قوة، لإسقاط الحكومة وهو يعرف أن إمكانية انهيارها السريع كامنة في تركيبتها.
وفي الواقع فإن نتنياهو زرع عدداً من الألغام القابلة للانفجار أمام هذه الحكومة وخلال أيامها الأولى، وإذ لا يستهان بخطورة الألغام الأخرى، التي ستضع الحكومة ورئيسها أمام قرارات صعبة وخطيرة، فإن الأقرب من هذه الألغام للانفجار، هو السماح بفعالية الأعلام التي ستجوب القدس إلى باب العامود يوم غد.
إلغاء المسيرة مؤشر على رضوخ اسرائيل للتهديدات الفلسطينية وعنوان للتحريض على الحكومة، والسماح لها، يعني التصادم بقوة مع الجماهير الفلسطينية التي أطلقت نداء شد الرحال إلى القدس في اليوم ذاته لمواجهة المستوطنين، وهو كذلك إغضاب لواشنطن التي ترى في المسيرة استفزازا لمشاعر الفلسطينيين وتسخينا للمواجهة.
وكما هو غريب أن يكون الحزب الأكبر في إسرائيل خارج التركيبة الحكومية فإن الأغرب أن تكون الحكومة برئاسة شخصية غرة، تنتمي لليمين الصهيوني الديني المتطرف، ورئيس كتلة صغيرة في الكنيست.
واضح أن كلمة التغيير التي توصف بها الحكومة، هي مفتاح السر، فالتغيير يعني هدفا واحدا فقط وهو إسقاط نتنياهو، وما عدا ذلك لا ينطوي المصطلح على أي بعد آخر، سوى البعد الذي يتصل بتفاقم أزمة الحكم، والتدهور أكثر فأكثر نحو مزيد من الاضطراب والفوضى وعدم الاستقرار.
من يفحص البرنامج، أو الاتفاق الذي وقعت عليه الكتل التي تتشكل منها الحكومة، سيدرك سريعا، أن هذا البرنامج ملفق، ينطوي على متناقضات صارخة، وأن الحكومة المكونة من ثمانية وعشرين وزيراً، ستجد صعوبات هائلة عند مناقشة أي من القضايا المهمة.
كيف يمكن الجمع بين رئيس حكومة لا يرى مشكلة في قتل العرب، ويرفض صفقة القرن، من على يمينها، ويدعو لضم مناطق «ج» الفلسطينية ويرفض أي بحث في إمكانية تحقيق رؤية الدولتين، وبين الأقلية في الحكومة التي ترى ضرورة الانخراط في عملية سياسية على أساس رؤية الدولتين كما هو حال ميرتس، وإلى حد ما العمل؟
كيف يمكن لمنصور عباس، الذي كان سيقبل دعم الليكود لتشكيل الحكومة، لو أن نتنياهو نجح في استمالة بينيت أو ساعر، بأن يكون جزءاً من هذا الائتلاف مقابل وعود بإصلاحات اقتصادية قد لا تتحقق ويتنازل عن الالتزامات القومية؟
عباس الذي يشكل اختراقاً خطيراً للقومية الفلسطينية ويشكل الطابور الخامس، تتجاوز أهدافه إسقاط نتنياهو، ولا يوجد ما يبرر له ذلك، وبالتالي فإنه مقابل تلك الوعود لا يجد حرجاً في تأييد السياسات العنصرية والاستيطانية لحكومة يترأسها مستوطن.
في كل الحالات، فإن أفضل التوقعات لا يرى أن عمر هذه الحكومة يتجاوز الأشهر، وأراهن أنها قد تسقط في غضون أسابيع قليلة، ما يعني أن الأوضاع في إسرائيل تتجه نحو انتخابات خامسة ونحو تعميق أزمة الحكم والنظام، إن كان ذلك صحيحا، فإن من العبث المراهنة على يقظة الولايات المتحدة وشركائها الذي يتحضرون لفتح المسار السياسي نحو المفاوضات، ما يستدعي سياسة فلسطينية حكيمة تستثمر في الأزمة التي تعاني منها إسرائيل، كانت الحكومات الإسرائيلية وآخرها الحكومات التي ترأسها نتنياهو تتصدى للمبادرات الدولية الساعية لفتح المسار السياسي، بالادعاء أنه لا يوجد شريك فلسطيني، طبعاً بسبب الانقسام، الآن بوسع الفلسطينيين الادعاء بعدم وجود شريك إسرائيلي سواء استمرت الحكومة لأسابيع أو لأشهر، وبالتالي حشد التضامن والدعم الدولي لصالح القضية الفلسطينية، بعد أن سقط طرفا معادلة صفقة القرن حين لحق نتنياهو بشريكه ترامب.