على أثر العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عام 2008، دان أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، آنذاك، ياسر عبد ربه، "العدوان الإجرامي والوحشي الذي يتعرّض له قطاعنا الحبيب"، بتعبيره. واستطرد "نقول لأبناء شعبنا في قطاع غزة إن الدم ما بيصير مية". اليوم يلتقي قياديان في حركتي فتح وحماس، ليعلنا وحدة الحركتين لمواجهة خطة إسرائيل ضم أراض واسعة من الضفة الغربية إليها، فيصرح أمين سر اللجنة المركزية في "فتح"، جبريل الرجوب، "نريد فتح صفحة جديدة مع حماس وعمر الدم ما بصير ميّ". ثم يعقّب نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، صالح العاروري: "علينا تجميد خلافاتنا ولا نتوقف عندها لمصلحة اتفاق استراتيجي وجوهري في التناقض الوجودي مع الاحتلال".

بغض النظر عن الفرص الحقيقية التي تحملها هذه المبادرة من أثر على إنهاء الانقسام الفلسطيني، فإن أي خطوةٍ، مهما كانت صغيرة وحتى رمزية، من المتوقع تشجيعها ودعمها، لعل وعسى أن تحرز تقدّماً حقيقياً، مهما كان طفيفاً، لطي صفحة مؤلمة في تاريخ النضال الفلسطيني، خصوصاً في وقت تلاشت فيه تقريباً الحلول الأخرى التي يمكن لها التأثير على خطط الضم الإسرائيلي.

لم يكن اعتذار القيادة للشعب الفلسطيني على درجة من الأهمية كما هو الآن، وفي هذه اللحظات ولكن، وحتى لا "يصير الدم ميّ"، كما يحبذ الساسة الفلسطينيون التعبير عن "تلاحم الفصيلين"، وحتى تعطى هذه المبادرة وغيرها فرصة حقيقية للتغيير في واقع الانقسام، هناك اعتبارات لا يمكن القفز عنها، وعلى قادة حركة حماس وفتح أخذها بالاعتبار عند الخوض في الحديث عن مصالحاتٍ ونيةٍ حقيقيةٍ للتصدي لمخطط الضم الإسرائيلي وغيره من المخططات. أولاً، وقبل كل شيء، على قيادتي الحركتين الاعتراف بأنهما كانتا سبباً في حالة الضعف والهوان التي وصلت إليها الحالة الفلسطينية، وأن انقسامهما كان عاملاً ساهم بتشجيع قيادة الاحتلال على الذهاب إلى هذا الحد بالعمل على ضم حوالي 30% من مساحة الضفة الغربية. وعليه، الحركتان مطالبتان بالاعتذار للشعب الفلسطيني عن سنوات الانقسام، وعما ساهمت سياساتهما بإنتاج الواقع الحالي المؤلم، إذ بدون الاعتراف بالمسؤولية والاعتذار عنها لن يتعلم الفلسطينيون من أخطائهم، وسيبقون يكررونها، وربما بخطيئة أكبر في المرات المقبلة. على أنه يجب ألا يُفهم من هذا القول أن الاعتراف والاعتذار يعنيان نصب المشانق في رام الله وغزة، بل إنهما أولاً يمنعان انقسام السردية الفلسطينية التي تسير في شكلها الحالي باتجاه ترسيخ استقطاب بنيوي أخطر في المستقبل، وثانياً يعزّزان مبدأ المساءلة التي ما أسقطها مجتمع إلا وكان مصيره التفكك والانحلال.

عدم الاعتراف بالمسؤولية والاعتذار عنها (وليس بالضرورة العقاب) يفتح المجال في المستقبل إلى ما هو أقبح من الانقسام الحالي، ثم السؤال: ما الذي أوصلنا إلى هذا الحال؟ الشجاعة الحقيقية والحرص الجاد على مقاومة خطط الضم لا تأتي بعقد مؤتمرات صحافية وتصريحات إعلامية رنّانة، ولكن الشجاعة والجرأة والمقاومة الحقيقية لخطط الضم تأتي من خلال اعتراف قيادتي "فتح" و"حماس" بالمسؤولية التاريخية عن الانقسام، وما كان له من أثر على تراجع المشروع الوطني، وتقديم الاعتذار الواضح والصريح للشعب الفلسطيني الذي لم يبخل بتقديم مئات آلاف من الشهداء والأسرى والجرحى طول سنوات النضال.

لم يكن اعتذار القيادة للشعب الفلسطيني على درجة من الأهمية كما هو الآن، وفي هذه اللحظات التي تخلى عنه فيها العالم، وتخلى عنه حتى المقربون من أنظمة رسمية كانت سنداً تاريخياً له على عدة مستويات، وتُرك ليواجه مصيره وحده أمام الجرافات وخطط الضم الإسرائيلية. في ظل هذا التخلي، لا بد للشعب الفلسطيني أن يلمس أن قياداته الرسمية والحزبية معه، وقريبة منه، وتأتي إليه معترفة بأخطائها السابقة، طالبة الاعتذار منه عن الألم والمعاناة التي تسببا بها له، ولتتأكد قيادة الفصائل أن الشعب الفلسطيني سيسامح وسيلتف خلفهم بقوة وصلابة.

وعن الطريقة التي تم بها إخراج هذه "المصالحة" بين الحركتين الفلسطينيتين الكبيرتين، فإنها هزيلة فاقدة للمصداقية، وفيها استهتار بالشعب الفلسطيني الذي تم التعامل معه، وكأن لا رأي ولا وجود له، فالقيادات تقرّر متى تنقسم ومتى "تتصالح" بطريقة مركزية فوقية، والشعب على الجهة الثانية يستقبل ما يتفتق عن هذه القيادات من دون اعتبار لرأي أو مساءلة أو حقوق. هل اكتشفت قيادات الفصائل الفلسطينية الآن فقط أن هناك صفقة قرن ومخططات إسرائيلية لضم أراضٍ؟ فلتسأل هذه القيادات "المتصالحة" نفسها أولاً ماذا أعدت لمواجهة تنفيذ "الضم" الذي تتفاوض أطرافه بشأنه منذ سنوات؟ وهل استفاقت القيادة الفلسطينية على نفسها فقط الآن، أو كما يقال "عندما وقعت الفأس بالرأس"، لتتحرّك باتجاه المصالحة لمواجهة "التناقض الوجودي" مع الاحتلال؟

على قيادتي "فتح" و"حماس" إدراك أن الفشل في نقل إعلان "المصالحة" هذه المرّة أيضاً إلى مستوى الفعل، فإنه سيؤدي إلى مزيد من الإحباط والألم للشعب الفلسطيني، والعبث بمشاعر هذا الشعب المعطاء. وحتى لا نراكم الفشل، وحتى لا يقتصر الأمر على أنه مجرّد تظاهرة إعلامية مصحوبة بتصريحات إعلامية رنانة، وحفلة مواكبة من "التسحيج"، فإن طرفي الانقسام مدعوان إلى تعزيز مبادرتهما بتغييرات جوهرية على مستوى البرنامج السياسي لكل من الحركتين، وتغييرات هيكلية أخرى، مثل إعادة بناء منظمة التحرير على أساس وطنية، وهو بالمناسبة ما خلا منه الإعلان عن "المصالحة"، وذلك حتى تنجح المبادرة هذه المرة، ولا يصير فعلاً "الدم ميّ".