يقترب الأول من تمّوز، وهو تاريخ حاسم، كونه يمكن أن يشهد الشروع الإسرائيلي في ضم 30% من مساحة الضفة الغربية وفق ما هو وارد في رؤية ترامب، أو تأجيله إلى وقت آخر مناسب أكثر، على أساس معادلة وقف الضم مقابل استئناف المفاوضات.

لا أحد يعرف 100% إذا كان الضم سيحدث أم لا، وأين، وما حجمه – لدرجة نقل الصحافي يوسي فرتر عن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بأنه لا يعرف ماذا سيحدث – أما الواهمين والمنجمين والممسكين بمفاتيح معرفة المستقبل بيقين لا يأتيهم الشك أبدًا، فمنهم من يقول إن الضم لن يحدث حتمًا، والآخرون يقولون إنه سيحدث 100%.

ويرجع السبب في ذلك إلى وجود جدال كبير جدًا في إسرائيل والولايات المتحدة وبينهما، ليس على مبدأ الضم، فهذا حُسم في رؤية ترامب، ولكن حول توقيته: هل سيحدث في الأول من تموز، أم بعيد ذلك، أم عشية الانتخابات الرئاسية الأميركية، أم غداتها؛ وحجمه: 30%، أم 20%، أم 10%، أم أقل من ذلك بحيث يكون صغيرًا ورمزيًا في البداية؛ والمناطق التي سيشملها: الأغوار والمستوطنات وشمال البحر الميت، أم أجزاء من هنا ومن هناك، أم من الأغوار، أم من المستوطنات؟

وهناك جدال إسرائيلي حول هل سيكون الضم في إطار رؤية ترامب، أي ضمن عملية سياسية أم لا، أو بتفاهم مع الأردن ومصر وأوروبا لكي لا يؤثر على معاهدات السلام معهما أو خطوة إحادية؟ فهناك أوساط مهمة في اليمين المتطرف داخل الليكود والمستوطنين المستعمرين ترفض أن يأتي الضم ضمن رؤية ترامب كونها تنصّ على إقامة دولة فلسطينية على حوالي 70% من الضفة، وهم يرفضون تقسيم الضفة، لأنهم يعتبرونها “يهودا والسامرة”، وجزءًا مهمًا وحيويًا من “أرض الميعاد” التي يجب أن تضم في وقت لاحق عندما تتوفر الظروف المناسبة، إلى جانب أنهم يرون أن قيام دولة فلسطينية على أي جزء مرفوض وخطر وجودي وأمني على إسرائيل، هذا مع أن الدولة المنصوص عليها في الرؤية الأميركية الإسرائيلية هي لذر الرماد في العيون، وليست دولة لكون الشروط المطروحة لإقامتها تعجيزية، على أن تقام بعد 4 سنوات، وتجعل إقامتها مستحيلة التحقق كما أوضح ذلك نتنياهو، جهارًا نهارًا، مرات عدة، وهو يحاول إقناع عتاة المتطرفين الصهاينة، لدرجة مماشاتهم والتعهد لهم بأن الضم القادم لن يكون في إطار الرؤية الترامبية.

لم يحصل نتنياهو على الضوء الأخضر من إدارة ترامب للضم، إذ تصر على إجماع إسرائيلي في الحكومة على أي خطوة قبل اتخاذها في ظل خلافات بين بنيامين نتنياهو وبيني غانتس حول الخطوة القادمة، وكيفية اتخاذها بتوافق مع أطراف عربية ودولية أو من دونها، في ظل الأنباء عن خلاف داخل الإدارة بين فريقين:

الأول، يتزعمه جاريد كوشنر الذي جل تركيزه الآن على فوز ترامب بولاية ثانية، ويريد تأجيل الضم والاكتفاء بزيادة وتائر الضم الزاحف على الأرض من دون إعلانات كبيرة، على أن يتم الضم لاحقًا، وربما بعد الانتخابات.

والثاني، يتزعمه السفير الأيديولوجي المتعصب ديفيد فريدمان المتحمس للضم، ويريد الضم الآن الآن وليس غدًا، اغتنامًا للفرصة التاريخية الذهبية الحالية، خصوصًا أن لا أحد يضمن فوز ترامب مرة أخرى.

وهناك في إسرائيل من يقول لم العجلة الآن؟ ولماذا الصدام مع الديمقراطي جو بايدن في حال فوزه، لا سيما أن الأرض كلها بيد إسرائيل، والضم القانوني يمكن أن يتأخر من دون أن تخسر إذا أقدمت على الضم في ظل المعارضة الداخلية والخارجية، واحتمال حل أو انهيار السلطة، ونشوب مقاومة فلسطينية قد تتحول إلى انتفاضة، إلى جانب التخوف من ضرب العلاقات الأردنية الإسرائيلية بشكل كبير، بما يهدد إنهاء معاهدة “وادي عربة”، وضرب فرص التطبيع مع احتمال فرض عقوبات أوروبية على إسرائيل، واعتراف عدد من الدول الأوروبية بالدولة الفلسطينية؟

وفق أخبار تداولها الإعلام، سيعقد اجتماع خلال هذا الأسبوع في البيت الأبيض، للبت في الأمر، فما السيناريوهات المحتملة:

السيناريو الأول: تأجيل الضم لبضعة أشهر

يقوم هذا السيناريو على تأجيل الضم لمدة زمنية قصيرة قد تصل إلى ما بعد الانتخابات الأميركية، ودعوة الفلسطينيين للمفاوضات على أساس رؤية ترامب، وهذا أمر من الصعب أن تقبله أو ترفضه القيادة الفلسطينية كونها ستكون أمام إغراء كبير من جهة وتهديد كبير من جهة أخرى، فهي ستجد – إذا وافقت – السلم للنزول عن رأس الشجرة الذي صعدت إليه بقرارها بالتحلل من الاتفاقات والعلاقات مع أميركا وإسرائيل، والذي سيقودها إذا تم الضم إلى تطبيق قرارها، واضطرارها لاتخاذ خطوات أشد، ما يعني أنها إذا لم تبدأ بتسليم مفاتيح السلطة للاحتلال ستنتهي بذلك، أو تنهار السلطة بحكم عدم قدرتها على تقديم الخدمات والرواتب والأمن .

يعزز ذلك أن البديل الذي تلوح به حول تحويل السلطة إلى دولة تحت الاحتلال وتشكيل مجلس تأسيسي وإقرار دستور للدولة لن يغير من الواقع الحالي شيئًا، بل سيزيده تدهورًا، فما الفرق بين سلطة تحت الاحتلال أو دولة تحت الاحتلال ما دامت السلطات ستكون بيده أو بأمره؟ فالوضع الحالي دولة تحت الاحتلال، ولن يغير الأمر شيئًا تسمية السلطة دولة.

يتردد ما يشير لوجود أوهام وتخيلات بأن تأجيل الضم حتمًا سيحدث، وسيكون انتصارًا كبيرًا، وسيجري تضخيمه إن حدث، وسيقود إلى المفاوضات ويبرر استئنافها، تحت وهم أنها ستكون على أساس الشرعية الدولية، وأن من مصلحة الفلسطينيين المشاركة فيها لكسب الوقت حتى شهر تشرين الثاني القادم، لعل وعسى ينجح بايدين في الانتخابات الأميركية. فإذا نجح بايدن، فستسقط رؤية ترامب ويقودنا إلى مفاوضات، ستكون في أحسن الأحوال تكرارًا لتجربة جون كيري، وتكون سيدة نفسها، خصوصًا إذا استمر نتنياهو زعيمًا لإسرائيل بلا منافس. وأما إذا فاز ترامب فسيمضي في دعم تطبيق رؤيته التي تستهدف تصفية القضية الفلسطينية.

ما يجعلنا نشير إلى ذلك حديث رئيس الحكومة بأن أزمة الرواتب ستنتهي بحد أقصى في الأول من تموز، ووقوع القيادة في فخ تقديم تصور مضاد للرؤية الأميركية، وأنها سترى أن استئناف المفاوضات من دون موافقتها على رؤية ترامب، أو اعتبارها أساس المفاوضات، أفضل من الوضع الحالي.

أي قرار فلسطيني يتضمن العودة إلى المفاوضات من دون سحب رؤية ترامب سيقود إلى اعتبار رفض الضم القانوني سقف الموقف الفلسطيني، وهذا إن حدث سيقود إلى تعايش وتعامل مع الرؤية الأميركية، وإلى تنازلات جديدة، مثلما رأينا بأن التصور الفلسطيني المقدم عاد للالتزام بدولة منزوعة السلاح ومبدأ “تبادل الأراضي” سيئ الصيت والسمعة.

من دون رؤية شاملة وإستراتيجية جديدة، تستعد لكل الاحتمالات، وبإرادة فلسطينية مستعدة لتحمل المسؤولية ودفع الثمن تفتح طريق الوحدة أو التوافق الفلسطيني؛ سيكون أي بديل أحاديًا، وسيزيد الفلسطينيين ضعفًا على ضعف وانقسامًا على انقسام، وسيكون عودة إلى دوامة المفاوضات بلا مفاوضات، بحيث تغطي هذه المرة على مؤامرة تصفية القضية الفلسطينية.

لقد انتهت التسوية التفاوضية، وقتلتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، ولا يريد أحد أن يدفنها حتى لا يتحمل المسؤولية عن الجريمة، وعلى القيادة أن تقتنع بذلك وتعتمد مقاربة جديدة، أو تترك المجال لقيادة جديدة، فلا مفاوضات مثمرة قبل أن يصبح الفلسطينيون أقوياء قادرين على إنهاء الاحتلال وتفكيك الاستيطان.

السيناريو الثاني: ضم جزئي أو أكثر

يقوم هذا السيناريو على إقدام الحكومة الإسرائيلية على ضم جزئي ورمزي أو أكثر، ودعوة الفلسطينيين للمفاوضات، وهذا أمر صعب قبوله، لأن الضم مهما كان حجمه يفتح الطريق للضم الكلي، خصوصًا إذا رافقه إعلان إسرائيلي حول جدول زمني لاستكمال الضم. وفي هذا السياق، ستستخدم واشنطن وتل أبيب الرفض الفلسطيني للمضي في الضم واستكمال تطبيق مؤامرة تصفية القضية الفلسطينية. وحتى لو عارض غانتس الضم الجزئي من دون غطاء عربي ودولي له، فإنه لن يؤثر على قرار الحكومة كون نتنياهو يملك أغلبية في الحكومة والكنيست لتمرير أي قرار بخصوص الضم.

السيناريو الثالث: عدم توافق الحكومة الإسرائيلية على آليات الضم

يقوم هذا السيناريو على فشل الحكومة الإسرائيلية في الاتفاق على آلية الضم، إلى جانب عدم الاتفاق على الموازنة وأمور أخرى، والذهاب إلى انتخابات كنيست جديدة، تشير الاستطلاعات إلى أن الليكود سيحصل فيها على أكثر من 40 مقعدًا، وسيكون بمقدوره تشكيل حكومة يمينية متطرفة تمضي في الضم، وتوفر الحصانة القضائية لنتنياهو، التي لا توفرها له الحكومة الحالية. وهدد نتنياهو غانتس بأنه من دون ضم لا توجد حكومة بل انتخابات.

ويعني هذا السيناريو أن الضم سيتأخر إلى ما بعد الانتخابات الأميركية، وسيكون مرتهنًا بنتائجها، فإذا فاز ترامب سيطبق، وإذا فاز بايدن من الصعب تطبيقه.

إن ما يجري حاليًا يشير إلى أن الصراع القديم بين فريقين في الحركة الصهيونية مستمر بأشكال وأوزان جديدة، حيث يتصدر المشهد الآن اليمين واليمين المتطرف. فعشية النكبة حسم ديفيد بن غورين الجدال، وقرر قبول إقامة إسرائيل على جزء من أرض فلسطين، وقبل بقرار التقسيم أو تظاهر بقبوله، وسطا على أكثر من 20% من المخصص للدولة العبرية في قرار التقسيم وأعلن قيام “إسرائيل” على 78% من مساحة فلسطين. ولو كان مناحيم بيغين صاحب القرار، حينها، لأضاع على الحركة الصهيونية فرصة إقامة إسرائيل، لأنه أراد إقامة “إسرائيل” على كل أرض فلسطين، ولم يدرك ما الذي يمكن تحقيقه، وما المستحيل تحقيقه.

أما الآن، فإسرائيل تحت قبضة زعيم من الاتجاه “الإصلاحي”، وريث جابوتنسكي وبيغن، ويريد أن يكرر تجربة بن غوريون، ويسجل اسمه من خلال الشروع في المرحلة الثالثة من الحركة الصهيونية التي تريد فيها إقامة “إسرائيل الكبرى”. فهل يستطيع ذلك أم ينتظر في ظل المعارضة الشديدة ليقوى أكثر، لننتظر ونرى؟ مع أن المطلوب منا عدم الانتظار، بل الفعل لمنع تحقيق ذلك، لكن على أساس أن الضم فرع من أصل، والهدف إنهاء الإحتلال الذي هو الأصل الذي نبت منه جميع النباتات الشيطانية.

آمل ألا تقع القيادة الفلسطينية في فخ المفاوضات من جديد، وعليها أن تعتبر تأجيل الضم فرصة لمواصلة النضال لإنجاز الحقوق الوطنية، وإذا جرى تطبيقه فهو لن يلغي حقًا، ولا يترتب عليه أي التزام، فمن دون الغطاء الفلسطيني لا قيمة له.