"ماما.. لا أريد أن أموت الآن.. لم أحظ بما أحتاجه من وقت لأعيش مثل أختي، فهي تكبرني بعدة أعوام وجربت أشياء أكثر.. لماذا أعاني من أزمات الربو وتهاجمني الأمراض كثيرًا.. وهل هذا معناه أنني سأصاب بكورونا.. أخبري الله أنني لا أريد الموت بهذا الفيروس"!

بهذه الكلمات أيقظتني ابنتي في الصباح؛ كانت أختها الكبرى قد أخبرتنا -مساء الليلة السابقة ووفقا لبيانات تطبيق عالمي تتابعه ويرصد الإحصائيات المتعلقة بكورونا- أن الإصابات تخطت ستمئة حالة إصابة، وتوفيت أولى تلك الإصابات في البلد الخليجي الذي نعيش فيه.. انتبهتُ إلى أن ما يدور حولنا يخيف أطفالنا.. يرعبهم، يجعلهم في دائرة مغلقة يدورون بين الهلع والخوف والضياع.

صمتّ قليلا.. راجعت ما حدث أمس، لم نخرج من المنزل منذ أسابيع إلا للتريض مرة يوميًا، أطلب بعدها تغيير كل الملابس وترك الأحذية خارجًا.. غسيل الأيدي كل ساعة، استخدام المعقم بعد كل لمسة لمقبض أو كوب.. الحفاظ على أدواتنا شخصية.. متابعة الأخبار ومشاركتها مع الأصدقاء عبر الهاتف: الوسيلة الوحيدة المتاحة الآن.. ثم الاطمئنان عليها كلما عطست أو انتابتها نوبة سعال طارئة.. وعلى أختها إن عطست أو ارتفعت حرارتها.. يا الله لقد نقلت لها الهلع من دون أن أقصد.

رغم كوني لست من هواة المبالغات ولا الهلع الزائد؛ فإن ما قالته صغيرتي يؤكد أن أطفالنا ليسوا مجرد كائنات صغيرة تتحرك حولنا فتلعب وتلهو، بينما نتمنى نحن تأمين مستقبلهم إلى جانب طعامهم وملابسهم ومذاكرتهم، ونتأكد من خلودهم إلى النوم؛ بل هم قرون استشعار لم تفقد حساسيتها بعدُ لما نختبره ونخاف منه وعليه.. وهذا يدفعنا للتفكير مليًا في الكيفية التي نخبرهم بها بما يحدث من دون مبالغة أو تهوين.. كيف نصْدقهم القول بعيدًا عن الرعب الذي قد يستأثر بنا وبهم؟

"عندما تتعب أقدامنا نستمر بفضل قلوبنا، وإن تعبت قلوبنا نستمر بفضل قوة إيماننا"؛ (مخطوطة وجدت في عكرا، باولو كويهلو).

خرجت من صمتي وضممتها ومررت يدي على شعرها، أخبرتها أن الله يسمعها الآن ويعرف طلبها، حضّرت إفطارًا تحبه، وجلسنا نتحدث عن ذلك الفيروس الصغير جدًا الذي لا يمشي ولا يتحرك، بل نحن من نحمله ونتحرك به فينتشر!

تذكرت فيديو كنت قد شاهدته سابقا لمعلمة تضع حبات من الفلفل الأسود مطحونة في طبق به مياه، وتطلب من الصغار غمس إصبعهم في الإناء فلا يحدث أي تغيير، ثم تطلب منهم وضع صابون على أيديهم وغمسها مرة أخرى، فما تلبث حبات الفلفل الرقيقة أن تتراجع بعيدًا.

جربنا الفكرة؛ وضعت إصبعها بالطريقة ذاتها وضحكت بعدها.. وفهمت ما قصدته من الفكرة.. أخبرتها أن تلك التعليمات الخاصة بالنظافة مهمة لحمايتنا في حال كان الفيروس حولنا، أو على أحد الأسطح رغم احتياطاتنا.. ولا يعني التقيد بالاحتياطات أننا مصابون بل لتجنبها فقط..

سألتها لماذا تشعر بكل هذا القلق؟ أخبرتني أنها ملت من البقاء في المنزل بعيدًا عن أصدقائها ومدرستها وروتينها اليومي.. فلم يزرنا أحد طوال شهر تقريبًا.. كما أنها تسمعني أتحدث عبر الهاتف مع صديقاتي حول ما يحدث في بلدانهم.. تعرف أنني أطمئن الجميع لكنها تعتقد أنني متفائلة أكثر مما يجب.. خصوصا أنها تتابع الأعداد في بلدان عدة مع أختها الكبرى، وهي تعلم أن الأعداد في تزايد كل يوم!

صدمتني أفكار طفلة في السابعة، تتابع وتجمع المعلومات ثم تحللها وتبني مواقفها الشخصية عنها.. ضممتها ثانية.. جعلتها تقرأ ما كُتب عبر موقع منظمة الصحة العالمية عن المرض وانتقاله إلى الأطفال وأهمية النظافة والتباعد الاجتماعي.. وتوقعات انحساره قريبًا.. وتجارب دول نجحت في تخطيه.. فإذا كانت ستعرف على أي حال فلتحصل على المعرفة من مصادر موثوقة.

خرجنا لنطمئن على ورودنا التي بذرناها قبل خمسة أيام.. كانت قد نبتت وشق خضارها التربة الحالكة.. وجدتها فرصة للحديث معها حول الفسيلة وفكرتها، وضرورة الإيمان بأننا باقون هنا بأمر الله وتوقيته، وطالما أننا نتنفس فيجب علينا أن نحتاط لصحتنا، ونواصل العيش كأننا سنبقى للأبد فنعمر ونزرع، ونستمتع بلحظاتنا البسيطة ولا نستسلم للخوف، كما يجب علينا الابتعاد عما يؤذي غيرنا لأننا قد نرحل بعد ثوان فقط.. فلا أحد يعرف متى يحين وقته؟

"الموت ليس شيئًا مرعبًا في حد ذاته، ولكن بما يتركه للأحياء من بقايا حياة الراحلين"؛ (أوتار الماء، محمد المخزنجي).

صمتت هي قليلا.. ودار حوار طويل بعدها عن جدوى إخفاء توقيت رحيلنا.. هل لو علمنا به كنا سنتصرف بنفس الطريقة أم كنا سنستغل حيواتنا بشكل أفضل وقد يكون أسوأ.. اهتدت إلى أن ترك ساعة رحيلنا غير معلومة أكثر راحة من معرفتها للراحلين وليس لمن حولهم، فربما كانوا سيجمعون لحظات أطول مع من يحبون!

تفكِّر ابنتي في الموت كثيرًا، ربما لرحيل أبيها وهي صغيرة ورغبتها الدائمة في استحضار ذكرياتها معه.. وزاد خلال الأيام الماضية خوفها من أن يزحف الموت مرة ثانية نحو أسرتنا: هي أو أختها أو أنا.. ترعبها الفكرة كثيرًا.

في ظل البقاء الطويل في المنزل؛ صارت فقرة المشاهدة اليومية شباكًا مفتوحًا على الأفكار والقصص من حولنا.. في ذلك اليوم اخترنا فيلم "ONWARD" الذي يحكي عن تلهف طفل للقاء والده الذي رحل عن الدنيا قبل أن يولد، ويغبط أخاه الأكبر لأنه عايشه أطول.. قبيل عيد مولده الثالث عشر يكتب قائمة أمنيات من ضمنها لقاء والده واللعب معه والضحك واحتضانه..

يمر اليوم ويدخل الطفل في مغامرات عدة يشاركه فيها أخوه الأكبر.. ليكتشف في النهاية أن كل ما تمناه كان في متناول يده مع أخيه طوال الوقت ولم يكن مستحيلا كما تخيل، لكن انشغاله بأن يحصل عليه بطريقة واحدة هو الذي أعماه عن الشعور بذلك الوجود..

استمتعت صغيرتي بالفيلم.. بكت في أجزاء منه.. وضحكت في أخرى.. احتضنت أختها.... تذكرت والدها.. وطالبت بحقها في عناق طويل.. قالت إنها تملك الكثير الآن.. أخبرتنا أنها لن تخاف من كورونا ولا أي فيروس آخر ما دمنا معًا.. واصلت غسل يديها والبقاء في المنزل لكنها صارت أكثر راحة وأقل قلقًا..

‏"كل شيء يمرّ به الإنسان في حياته لا بد منه. كل شأن هو ضرورة. كل حدث هو حاجة ملحّة"؛ (موت صغير، محمد حسن علوان).

كل يوم تزداد قناعتي بأن هذا الابتلاء يحمل في طياته كثيرًا من الفوائد والاكتشافات لنا جميعًا.. ربما يكون أهمها ما اكتشفناه من ضرورة إعادة ترتيب أولوياتنا وتحديد مساحة الطاقة المبذولة في كل خيار.. وليس آخرها تلك الأنفاس التي باتت الأرض تستنشقها بعيدًا عن كل آثامنا تجاهها..

ضرورة الحدث ودوره في تغيير نظرتنا وتطوير تعاطينا مع الحياة، أفكار ربما ليست معقدة لنشرحها لأطفالنا، ولكن قبلها نحتاج إلى بث جرعة كافية من الأمان والاطمئنان إلى جانب الحذر.. فهذا العدد الهائل من الأخبار اليومية عن الوباء المستشري وقدرة ذلك الكائن على التفرد باهتمام العالم أجمع، ربما يُدخلنا في دوامة القلق والحزن والخوف تدريجيا..

لذا نحتاج إلى مراقبة أنفسنا؛ فنحن خط الدفاع الأول في أسرنا.. فبات من واجبنا أن نعرف من دون الغرق في سيل الأخبار الجارف.. نجرب المفيد ولا نستسلم لكل ما يُنشر أو يقال.. نعيش ما بقي لنا من أوقات في سلام وباطمئنان وهدوء، فلن يأتي ملك الموت قبل موعده، فلنعرف أنفسنا الآن على طبيعتها من دون مشتتات.. ولنستوثق من قوة علاقاتنا مع الآخرين.

"الحياة يمكن تلخيصها في كلمتين: استقبال وتوديع..، ولكنها رغم ذلك لا نهائية"؛ (حضرة المحترم، نجيب محفوظ).

في نهاية ذلك اليوم؛ اتفقنا على أن يكون الغد خاليا من الحديث عن كورونا وأخباره تمامًا.. حددنا وقتًا للاطلاع على أخبار الفيروس مرة واحدة يوميًا، وضعنا ساعة محددة لتبادل الحوار عن مخاوفنا وأفكارنا..

بدأنا في تخيل ما نود فعله في عالم ما بعد كورونا.. تبادلنا أفكارًا مضحكة لأول لقاء مع أصدقائنا بعد التوقف عن السلام باليد أو التقبيل والعناق لمدة طويلة.. توقعنا خوف البشر من التجربة الأولى لتلك الأمور مرة ثانية.. تخيلنا شكل الشوارع ومدى ازدحامها والجميع يمشون بلا توقف في محاولة للحصول على حرية سُلبت منهم.

حاولنا رسم صورتهم وهم يستنشقون الهواء مباشرة وليس عبر شباك أو من خلف قناع واقٍ.. وبالطبع دار في خلدنا مصير كل أدوات التعقيم والتنظيف التي باتت أهم من الطعام في منازلنا: هل سنظل على ودنا معها أم ستعود إلى مكانتها السابقة؟

عقدنا عهدًا على أننا -إن نجّانا الله من تلك التجربة- سنشاهد جميع أفلام السينما التي ستُعرض مستقبلًا.. حددنا قائمة لنختار الدولة التي سنسافر إليها هذا العام.. وألزمنا أنفسنا أن نكتب كل يوم أو نسجل مقطعًا صوتيًا عما يحدث حولنا، لنبقي ذكريات تلك الفترة الغريبة في ذاكرتنا..

عند هذه النقطة لمعت عينا الصغيرة وقالتك ستكون هذه المواقف المسجلة مفيدة جدًا فيما سأحكيه لأبنائي وأحفادي عن ذلك الفيروس، الذي بدا وكأنه قد ضغط على زر التوقف المؤقت للعالم كله، ولكنه فتح الوقت في بيتنا فحظيت بكامل وقت جدتكم وخالتكم!