بخلاف التوقعات، فأن انطلاق مسيرات العودة الكبرى لم تحل في النهاية دون توجه رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس لفرض المزيد من العقوبات على قطاع غزة.

وفي حال تشبث عباس بقراره الأخير بعدم دفع رواتب موظفي السلطة في قطاع غزة، فإن هذه الخطوة ستفضي إلى انهيار الأوضاع الاقتصادية في القطاع وتنذر بتداعيات سياسية وأمنية بعيدة المدى.

فالتوقف عن دفع الرواتب ومخصصات الضمان الاجتماعي سيؤثر بشكل مباشر على حوالي 750 ألف غزي، يشكلون عائلات الموظفين الذين يتلقون الرواتب والعائلات المعوزة التي تحصل على هذه المخصصات.

في حين أن هذا التطور سيؤثر بشكل كبير على المرافق الاقتصادية والتجارية من خلال انهيار القوة الشرائية وتهاوي القطاعات التي توفر الخدمات المختلفة للجمهوري الغزي.

وبات في حكم المؤكد أن قرار عباس سيفضي إلى أحد سيناريوهين، سيكون لكل منهما تداعيات أمنية وسياسية بعيدة المدى.

ويتمثل السيناريو الأول في تفجر احتجاجات جماهيرية ضد حركة حماس ومؤسسات حكمها، على اعتبار أن عباس يعزو إجراءاته العقابية إلى رفض حركة حماس السماح بتمكين حكومة رامي الحمد لله من استعادة السيطرة على الوزارات والمرافق الحكومية في القطاع.

ومن الواضح إنه اعتمادا على تصريحات قيادات حماس في أوقات سابقة، فأن أي تحرك جماهيري ضد الحركة بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية سيدفع الحركة فورا نحو فتح مواجهة عسكرية شاملة مع إسرائيل.

وقد أكد عدد من قيادات الحركة في السابق أنهم أبلغوا أطرافا دولية وإقليمية بأنهم لن يقبلوا أن تتحمل حماس تبعات الحصار الذي تفرضه إسرائيل ومصر والإجراءات العقابية ضد غزة، وأن الرد سيكون باستهداف إسرائيل.

أما السيناريو الثاني فيتمثل في أن يفضي قرار عباس إلى تعاظم مستوى المشاركة الجماهيرية في أية مناشط تستهدف الاحتلال، وعلى رأسها حراك مسيرات العودة على الحدود بين إسرائيل والقطاع، الذي يتواصل منذ أكثر من أسبوعين.

ويبدو السيناريو الثاني هو الأقرب للتحقق، حيث أن مفهوم عباس لتمكين حكومته يشمل أيضا موافقة حركات المقاومة العاملة في قطاع غزة على نزع سلاحها وتسليمه للسلطة؛ إلى جانب تخليها عن مقدراتها العسكرية، وضمنها شبكات الأنفاق الهجومية والدفاعية. فهذا المفهوم للتمكين يقابل برفض جماهيري عارم يتجاوز حدود الاستقطاب التنظيمي.

فحتى قيادات "فتح" في غزة، الموالية لعباس لم تجرؤ على تبرير المطالبة بنزع سلاح المقاومة والدفاع عنه، في حين أن ممثلي جميع القوى الفلسطينية الأخرى يرفضون هذا المفهوم، وينتقدونه.

فالأغلبية الساحقة من الفلسطينيين في قطاع غزة يرون أن المطالبة بنزع سلاح المقاومة وتسليمه للسلطة يعني استنساخ البيئة الأمنية والسياسية في الضفة الغربية، والتي تمكن سلطات الاحتلال من اجتياح المدن الفلسطينية في الليل والنهار.

إلى جانب ذلك، فإن حركة حماس تتمتع تقريبا بدعم نواة صلبة تصل نسبتها إلى حوالي 30% من الغزيين، تتسم بدافعية كبيرة لمواجهة أي توجه لنزع سلاح الحركة.

من هنا، فإنه من المرجح أن تؤدي قرارات عباس إلى تعزيز بيئة المقاومة الشعبية التي تمثلها حاليا مسيرات العودة الكبرى من خلال اندفاع قطاعات جماهيرية جديدة للالتحاق بهذا الحراك ودعمه.

ومن غير المستبعد أن تفضي البيئة التي تكرسها قرارات عباس إلى جعل حراك العودة أكثر تصميما على تحقيق أهدافه من خلال زيارة دافعية الجماهير لتجاوز الحدود مع الاحتلال.

ومن الواضح أن تحقق أحد السيناريوهين أعلاه سيمثل تحديا كبيرا لإسرائيل، سيما في ظل حالة انعدام اليقين بشأن مستقبل الأوضاع الأمنية على الجبهة الشمالية، بعد قصف مطار "تي فور" السوري في حمص والذي نسب لإسرائيل وعلى خلفية التوقعات بشن الولايات المتحدة ودول أخرى هجمات على أهداف لنظام الأسد.

ففي حال أفضت قرار عباس الأخير إلى تفجر مواجهة شاملة بين حماس وإسرائيل، فأنه هذا التطور لا يخدم مصالح تل أبيب بالمطلق. فإلى جانب أن المستويات السياسية الإسرائيلية تحرص مؤخرا على أنه لا يوجد لإسرائيل أهداف إستراتيجية يمكن أن تحققها في مواجهة مع حماس، كما عبر عن ذلك قبل يومين عضو المجلس الوزاري المصغر لشؤون الأمن يوآف غالانت، فأن هذه المواجهة ستؤثر على فاعلية الجهد الحربي الإسرائيلي في حال تفجرت مواجهة في الشمال.

وفي حال أدت عقوبات عباس الجديدة إلى تعاظم مناشط فعاليات حراك العودة، فأن هذه النتيجة تشكل تحديا أمنيا كبيرا لتل أبيب.

فحسب تقديرات الجيش الإسرائيلي التي كشفت عنها صحيفة "يسرائيل هيوم" أول أمس الإثنين، فإن هذا الجيش سيكون مطالبا بالدفع بنصف قواته البرية إلى الحدود مع غزة في حال تواصل حراك العودة وتطور.

ومن الواضح أن استنزاف الجيش الإسرائيلي على طول الحدود القصيرة مع قطاع غزة في الوقت الذي يتأهب فيه لاحتمال انفجار مواجهة كبيرة على الشمال يقلص من قدرة تل أبيب للاستعداد لهذه المواجهة.

من هنا، فأنه يمكن الافتراض أن تتحرك إسرائيل على المستوى الإقليمي والدولي لمحاولة تطويق تداعيات قرارات عباس الأخيرة، سيما وأن وزير الحرب الإسرائيلي قد اتهم عباس صراحة بأنه يتوسع في فرض العقوبات على غزة من أجل جر حماس لمواجهة شاملة مع إسرائيل.